مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 01/07/2022

خطبة الدكتور محمد توفيق رمضان البوطي بتاريخ 2022/ 7 / 01


أما بعد فيا أيها المسلمون؛ يقول ربنا جل شأنه في كتابه الكريم: بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحۡمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ ﴿وَالْفَجْرِ ۞ وَلَيَالٍ عَشْرٍ ۞ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ ۞ وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ ۞ هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ﴾ ويقول النبي ﷺ فيما صح عنه: ((ما من أيَّامٍ العملُ الصَّالحُ فيهنَّ أحبُّ إلى اللهِ من هذه الأيَّامِ العشرِ. قالوا: ولا الجهادُ في سبيلِ اللهِ؟ قال: ولا الجهادُ في سبيلِ اللهِ إلَّا رجلًا خرج بنفسِه ومالِه فلم يرجِعْ من ذلك بشيء((. ويقول النبي ﷺ: ((إنَّ لربِّكم في أيامِ دهرِكم نَفَحاتٍ)) أي: أعطيات ((ألَا فتَعَرَّضوا لها((.


أيها المسلمون، تظلّلنا اليوم وما بعده أفضل أيام السنة على الإطلاق؛ وهي أيام عشر ذي الحجة التي قال فيها النبي ﷺ: ((ما من أيَّامٍ العملُ الصَّالحُ فيهنَّ أحبُّ إلى اللهِ من هذه الأيَّامِ العشرِ)). موسمٌ عظيمٌ وفرصةٌ ثمينةٌ أكرمنا الله U بها. أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا ممن اغتنمها وكُتبَ له القبول فيها.


لا شك أن لهذه الأيام مزيةً تخص ضيوف الرحمن الذين قدر الله لهم أن يكونوا في عداد حجاج بيت الله الحرام. على أن هذا لا يعني أن هذه الخاصة والمزية تخص حجاج بيت الله الحرام، فكم من أناسٍ يطوفون حول الكعبة وقلوبههم هنا وهناك! وكم من أناسٍ تطوف الكعبة حول قلوبهم وهم في بلادهم! يكتب لهم من الأجر والمثوبة ما يكتب للحجاج لأنه حيل بينهم وبين الحج إلى بيت الله الحرام بشكلٍ ما من أشكال الحيلولة والمنع.


وسيزول هذا المنع.. شاء من شاء ورضي من رضي وأبى من أبى! سيزول! وسيزول كل من يقف في وجه ضيوف الرحمن إن شاء الله تعالى، لأن الصد عن سبيل الله ليس أمراً بسيطاً.


 ليست هذه الضيافة في هذا العشر بخصوص ضيوف الرحمن الذين هم عند الكعبة المشرفة وحول بيت الله U، بل لك في بيتك من إكرام الله U ما قد يزيد على ما يكرم الله تعالى به عباده الذين يطوفون ويسعون ويذكرون ويتعبدون في مكة والمدينة المنورة.


لاحظوا أن النبي ﷺ قال: ((ما من أيَّامٍ العملُ الصَّالحُ..)). وهنا (الـ) من ألفاظ العموم أو الجنس، أي: كل الأعمال الصالحة؛ أي عملٍ صالح، إن كان صوماً أو صدقةً أو قياماً أو تلاوةً للقرآن أو ذكراً من تسبيحٍ وتحميدٍ وتكبيرٍ وتهليل.. أو كان بذلاً للمال، كل ذلك مندرجٌ تحت قوله ﷺ: ((العملُ الصَّالحُ)) لكي يوسع أمامك الله تعالى ميدان التقرب إليه.


إذا كنت قادراً على الصيام فصم، وإذا كنت ذا سعةٍ في الرزق فتصدق، وإن كنت قادراً على أن تقوم الله فتتهجد، فلماذا تحرم نفسك من لحظات الأنس بالله U في ليالي هذا العشر؟! لحظات الأنس بالله في هذا العشر لا تفوت! ما ينبغي لنا أن نضيعها. قم ولو ساعةً من الوقت فاذكر الله تعالى واستغفر لربك.


أقول: "استغفر" وهنا لا بد أن أقف عند كلمة: "استغفر"؛ كلمة "استغفر" ليست أن أقول: "استغفر الله".  كلمة "استغفر" أي: عد إلى نفسك وفكر في ماضيك واستعرض أيام حياتك. استعرض هفواتك وزلاتك وغفلتك وبعدك عن الله وتقصيرك. قال سبحانه: ﴿أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ﴾. الله تعالى لا ينسى! لذلك جديرٌ بنا أن نحاسب أنفسنا وأن نستعرض أيام حياتنا، ثم أن نرفع أيدينا إلى ربنا تبارك وتعالى قائلين: يا رب اعترفنا بذنوبنا وتبنا إليك وأنت القائل: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّه﴾.


كيف أقنط وأنت الذي فتحت لي أبواب المغفرة فقلت: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ ؟! كيف أقنط وأنت الذي قلت في كتابك: ﴿إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ﴾ ؟! أي كرمٍ هذا؟! أي عطاءٍ هذا؟! أي إحسانٍ هذا؟! أي فضلٍ هذا؟! يتكرم به الرب U على علينا فيقول لنا: ﴿يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾.


لذلك، هذه الأيام أيام مراجعة الذات والعودة إلى النفس ومحاسبتها.. العودة إلى الله.. عقد صلحٍ مبرمٍ بيننا وبين من لا ينقض العهود! بيننا وبين الذي قال لنا: ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾. وقال: ﴿وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا﴾. ما ينبغي أن نضيع هذه الفرصة التي أتحيت لنا. أول أمرٍ ينبغي أن نتقرب به إلى الله U هو التوبة والإنابة والاستغفار ومحاسبة النفس والعودة الصادقة إلى الله.


ثم كثرة الذكر، من وتكبيرٍ وتهليلٍ وتسبيحٍ وتحميدٍ، تلك الباقيات الصالحات التي كلما أكثرت منها عظم أجرك. إن أرض الجنة قيعان وإن غراسها الباقيات الصالحات، غراسها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر! أكثر من ذكر الله U. هل تعلم أنك بذكر الله U، لا سيما إذا كنت خالياً، يقول الله تعالى في الحديث القدسي: ((أنا جَليسُ مَن ذَكَرَني))، وقال: ((مَنْ ذَكَرَنِي في نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ في نَفْسِي، ومَنْ ذَكَرَنِي في مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ في مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْه)).


الأمر الثالث؛ الناس اليوم في ضائقة.. الناس اليوم في شدة.. فلقد تركت الفتنة التي أوقدت في بلادنا حالةً من الفاقة عند الكثيرين. ولذلك، ابذل.. أعط.. ولا تظنّنّ أن ما تعطيه ينقص من مالك. قال النبي ﷺ: ((مَا نَقَصَ مَالٌ مِنْ صَدَقَة)) بل إن الله يعوض ما تنفقه أضعافاً! وستجد أنك بمقدار ما تبذل، بمقدار ما يبارك لك في رزقك ويبارك لك في عطائه سبحانه وتعالى.


أبذل فإن الله سبحانه وتعالى قال: ﴿إِنَّ الذين آمَنُوا وعملوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ من أَحْسَنَ عَمَلًا﴾. أعط فإن الله سبحانه وتعالى يعطيك أضعاف ما اعطيت: ﴿كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء﴾. لماذا تبخل على نفسك؟ أنت لا تبخل على الفقير، أنت تبخل على نفسك! أنفق قدر مستطاعك وجد بمقدار وسعك، قال تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَهَا﴾.


إذا كنت قادراً على الصيام، نحن في هذه الأيام في أطول أيام السنة، ولكنها أفضل أيام السنة أجراً ومثوبة، فلا تخف! يعينك ربنا سبحانه وتعالى، إذا كانت صحتك تساعدك فلا تبخل على نفسك. استعن بالله وصم وستجد أن الله سبحانه وتعالى يعينك. وستدخل إن شاء الله من باب الريان إلى جنة الله U.


وإن من أعظم القربات إلى الله U أن تصل أرحامك، وأن تبر والديك، وأن تحسن معاملتك مع إخوانك ومع كل الناس. أنت موظف.. أحسن معاملة مراجعيك. أنت طبيب.. تعامل مع مرضاك برفق، والله لن يضيع رفقك أبداً أبداً. وستجد أن الله سبحانه وتعالى سيعوضك خيراً. وكذلك الأمر للمعلم وللتاجر وللعامل وللموظف ولكل في موقعه.. كلنا مكلفون بأن نحسن معاملة بعضنا.


الخلق الحسن أعظم عبادة! لن تتقرب إلى الله U بشيءٍ أعظم من حسن الخلق! لن تصل إلى ثوابٍ وقربٍ من الله U بأعظم من حسن الخلق مع الناس. من جارٍ أو قريبٍ أو متعاملٍ إلى غير ذلك. هذه الأيام دورةٌ على حسن الخلق، دورةٌ على التقرب إلى الله U!


إن لم تسنح لنا الفرصة أن نطوف حول الكعبة المشرفة فالكعبة المشرفة تطوف حولنا.. بلطف الله وكرمه وإحسانه.. بفضل الله ومثوبته بإذن الله تعالى.


أسأل الله تعالى أن يتقبل منا جميعاً وأن يجعل هذا الأيام أيام قبولٍ ورحمةٍ يعقبها الفرج بإذن الله.


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين.