مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 22/01/2021

خطبة الدكتور محمد توفيق رمضان البوطي بتاريخ 22 / 1 / 2021

أمّا بعد، فيا أيّها المسلمون؛ يقول ربّنا جلّ شأنه في كتابه الكريم: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) ويقول سبحانه: (ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) ويقول سبحانه: (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ).


أيّها المسلمون؛ أحداث السيرة النبوية تطبيقٌ عمليٌ للقيم والمبادئ التي دعا إليها ديننا؛ وترجمةٌ تطبيقيةٌ لتلك المثل الأخلاقية السامية التي دعا إليها ديننا. ونحن اليوم أمام صورتين أو أمام حدثين خطيرين تعرضت لهما الدعوة الإسلامية في الصدر الأول. ذلك أن بعضاً من قبائل عضل والقارة المقيمين بين مكة والمدينة أتوا النبي ﷺ بعد غزوة أحد وطلبوا منه أن يرسل إليهم من يعلمهم الإسلام. فأرسل إليهم نفراً، لعلهم يبلغون سبعة أشخاص؛ أميرهم عاصم بن ثابت ومنهم خبيب بن عدي وزيد بن الدثنّة ومرثد بن أبي مرثد وآخرون.


ومضى هذا الوفد المبارك إلى عضل والقارة حتى إذا كانوا بين عسفان ومكة، ذُكروا لقبيلة بني لحيان الذين جردوا مئة رامٍ خرجوا إليهم وحاصروهم في هضبةٍ ذات أشجار، وطلبوا منهم أن يستسلموا. ووعدوهم أنه لن يصيبهم منهم أذى، ولن ينالوا منهم شراً. أما عاصم بن ثابت فرفض أن ينزل في ذمة مشرك لأنه لا يوثق بهم، وقاتلوهم فقُتلَ عاصم بن ثابت وآخر. وطلبوا من البقية أن يستسلموا ووعدوهم بالأمان، فاستسلم خبيب بن عدي وزيد بن الدثنّة وآخر فقيدوهم.


أما الآخر فقد قال: "هذا أول الغدر" ورفض أن يٌقيّد وأراد الفرار فقتلوه. أما خبيب وزيد فقد باعوهما لطغاة مكة. باعوا خبيب بن عدي لبني الحارث وزيد أعطيَ لصفوان بن أمية. كان خبيبٌ في دار بني الحارث وعرف أنه سيُقتل في اليوم التالي، فطلب موسىً ليستحدّ بها –أي: ليحلق بها - فأعطوه الموسى.


وفي الصباح كانت زوجة بني الحارث منهمكةً في أشغالها؛ استيقظ طفلها ودرج حتى تسلل إلى ذلك الأسير المجندل عندهم والذي كانت بيده شفرةٌ يستحدّ بها. فلما رأى ذلك الطفل وضعه في حجره وأخذ يداعبه بلطفٍ ورقةٍ وكأنه أبوه! انتبهت الأم أن ابنها النائم لم يستيقظ بعد أو استيقظ، فمضت عليه فلم تجده في الفراش. ففزعت وبحثت عنه فإذا هو في حجر خبيب بن عدي! قد يخطر في بال المرء أن خبيباً يعلم أنه بعد ساعاتٍ سيقتل، فلماذا لا يراهن على هذا الطفل؟!


هذا الذي خطر في بال تلك المرأة، فأتت إليه فزعةً، فقال لها بكل طمأنينة: "أخفتِ عليه؟ ما كنت لأوذيه إن شاء الله". بالعكس تماماً! كان يداعبه ويضعه في حجره بكل حنانٍ ورقة. تقول هذه المرأة بعد أن هداها الله U: "والله ما رأيت أسيراً أفضل ولا خيراً من خبيب. إن كنا لنرى في يده قطفاً من العنب وما بمكة يومئذٍ ثمر، إن كان رزقاً رزقه الله إياه".


لم يؤذ ولدها بل عطف عليه ثم تركه إلى حجر أمه. ثم إنه بعد ساعات، أُخذَ إلى خارج الحرم، ووضع على خشبه الصلب. وقبل أن يصلب استأذن أن يصلي ركعتين يودع بهما الحياة، ثم قال:


ولست أبالي حين أقتل مسلماً *** على أي جنبٍ كان في الله مصرعي


وذلك في ذات الإله فإن يشأ *** يبارك على أوصال شلوٍ ممزع


t. ومضى إلى ربه شهيداً وحمى الله جثته وأخفاها عن أعين المشركين بعد قليل.


أما زيد بن الدثنّة فوضع على خشبة الصلب وسأله أحد المشركين: "أنشدك بالله يا زيد: أتحب أن محمداً الآن عندنا مكانك نضرب عنقه وأنك في أهلك آمن مطمئن، فقال له زيد: لا والله ما أحب أن محمداً الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكةٌ، وأني جالسٌ في أهلي!" يقول أبو سفيان: "والله ما رأيت أحداً من الناس يحب أحداً كحب أصحاب محمدٍ محمداً ﷺ".


هذه هوا الحادث الأول. والحادث الثاني كان بُعيد ذلك؛ عندما طلب عامر بن مالك أحد زعماء نجد من النبي ﷺ، أن يرسل دعاةً إلى نجد لكي ينشروا الإسلام ويدعو إليه. فقال له النبي ﷺ: "أخاف عليهم أهل نجد" قال: "أنا جارٌ لهم" - أي: أضعهم في ذمتي وجواري.


فأرسل وفداً كبيراً من خيرة الصحابة سبعين رجلاً، مضوا حتى إذا وصلوا إلى مكانٍ قريبٍ من عامر بن الطفيل أحد زعماء نجد. أرسلوا إليه حرام بن ملحان بكتابٍ من رسول الله ﷺ؛ والرسل – أي: المبعوثون - لا يقتلون بل يستقبلون، ثم إن شاءوا لبوا ما في الكتاب وإن شاءوا رفضوه. ولكن عامر بن الطفيل لعنه الله لم يقبل الكتاب، بل مباشرةً عدا على حرام بن ملحان فقتله. وصرخ عامر بن ملحان وقد رمي بالضربة القاتلة: "فزت ورب الكعبة".


ثم إنه استعدى بني عامر، فرفضوا أن يخفروا ذمة عامر بن مالك الذي جعلهم في جواره، فاستعدى عليهم قبائل عصية ورعل وذكوان، فقتلوهم عن آخرهم! قتلوا السبعين عن آخرهم! إلا أنه نجا واحدٌ منهم؛ هرب من غدرهم إلى النبي ﷺ وهو عمرو بن أمية الضمري. وصل إلى النبي ﷺ عمرو بن أمية الضمري وأخبره بالحدث. فحزن النبي ﷺ وتأثر ودعا على قبائل بني ملحان الذين غدروا بالوفد الأول وعلى رعل وذكوان وعصية؛ قنت عليهم شهراً كاملاً.


إنسانٌ جعلهم في ذمته وجواره فيغدرون بهم ويخفرون ذمته ويقتلون هذا الوفد. لا لشيء.. لم يحملوا سلاحاً ولم يقاتلوهم ولم يأتوهم غزاةً، إنما جاؤوا لنشر الكلمة الطيبة؛ جاؤوا يدعونهم إلى الله، فإن شاءوا استجابوا وإن شاءوا رفضوا. لكن النفوس الدنيئة التي ربيت على الغدر والخيانة تأبى إلا أن تتجلى صفة الغدر والخيانة فيها.


ولا تغرّنكم اليوم الحضارات! ألا ترونهم اليوم ما يفعلونه ببعضهم في حضارتهم. ذلك هو الكفر! وذلك هو النفاق! وذلك هو الغدر! وتلك هي الخسة والدناءة!


قارن بين الموقفين؛ بين موقف خبيب وهو يضع الطفل في حجره وبيده الموس؛ الشفرة التي كان بوسعه أن يراهن بها على ذلك الطفل بنجاته، لكنه لم يكن ليفعل ذلك. كما قال: "ما كنت لأوذيه إن شاء الله". إنها الأخلاق الإسلامية! إنها المبادئ السامية! إنها أخلاق الدعاة الذين يحملون الكلمة الطيبة. وبالمقابل، تجد أن المنافقين والكفرة وأدواتهم يغدرون بالدعاة ويغتالونهم ويقتلونهم ويفعلون ما لا يتخيله إنسانٌ من مسلم.


هؤلاء ليسوا بمسلمين وإن رفعوا راية (لا إله إلا الله). هم أدوات الكفر والنفاق! هم نعال الكفر والنفاق! هم الترجمة الحقيقية للغدر الذي يقابل به الشعب الفلسطيني في فلسطين من قبل شذاذ الآفاق؛ هم الترجمة العملية لما يسمى حضارةً مزيفةً في الغرب، والتي نرى آثارها اليوم هنا وهناك في النيل من حقوق الشعوب المستضعفة والاستيلاء على ثروات الأمم والشعوب.


المسلم أخلاقه كلون بشرته! أخلاقه جزءٌ من تكوينه! لا يمكن أن يتجرد عنها، ويستحيل أن يغدر أو أن يكذب أو أن يخون.! أما غير المسلم من المنافقين والكفرة فأخلاقهم كالثوب الذي يخلعه متى شاء ويلبسه متى شاء؛ يتزين به أمام الناس أو يتجرد عنه متى شاء.


نسأل الله تعالى أن يلهمنا حسن الخلق، وأن يرزقنا التمثل بأخلاق سيدنا رسول الله ﷺ وأصحابه، وأن نكون الترجمة العملية للإسلام كما أنزله الله تعالى.


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين.

تحميل



تشغيل

مشاهدة
صوتي