مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 13/09/2019

خطبة الدكتور توفيق البوطي: طَلَبُ العِلْمِ فَرِيْضَةٌ

أمّا بعد فيا أيّها المسلمون؛ يقول ربّنا جلّ شأنه في كتابه الكريم: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) ويقول سبحانه: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ) ويقول النّبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم: ((طَلَبُ العِلْمِ فَرِيْضَةٌ عَلَىْ كُلِّ مُسْلِمٍ)) ويقول صلى الله تعالى عليه وسلم: ((منْ سَلَكَ طَريقًا يَلتمس فِيهِ علْمًا سهَّل اللَّه لَه به طَريقًا إِلَى الجنةِ)).


أيّها المسلمون؛ مع بدايات العام الدراسيّ الجديد، من الملائم أن نتحدّث عن أهمّية العلم والتعلّم، فالنبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: ((أغد عالماً أو متعلماً ولا خير فيما سواهما)). ومرّ النبي صلى الله عليه وسلّم في مسجده بمجلسين؛ مجلسٍ يذكر فيه الله تعالى، ومجلسٍ للفقه والعلم فقال: ((كلاهما على خير؛ أما هؤلاء - وأشار إلى مجلس الذكر - فهم يذكرون الله ويدعونه، فإن شاء قبل منهم وإن شاء الله لم يقبل، أما هؤلاء فيتعلّمون الفقه والعلم ويعلّمون الفقه والعلم، وإنّما بعثت معلّماً)) ثم جلس إليهم. استحسن المجلسين، ولكنّه فضّل مجلس العلم؛ لأن أثر مجلس العلم إيجابيّ، أما أثر مجلس الذّكر فهو يؤثّر في صاحبه.


أيّها المسلمون؛ إنّ العمليّة التعليمّية أمرٌ في غاية الأهميّة. وبوّابة العلم القراءة والكتابة، ولذلك نوّه بهما كتاب الله تعالى في أوّل ما أنزل الله على قلب النبي صلى الله عليه وسلم، عندما أوحى إليه: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَق *خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ *اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) أشار إلى رموز العلم كلّها عندما نوّه بالقراءة والكتابة والتعلّم.


ولذلك فإنّ علينا أن نهتمّ بالعمليّة التعليميّة، بعناصرها ومقوّماتها جميعاً، وهي بالدّرجة الأولى المؤسّسة التعليميّة المتمثلة بالمدرسة، وإدارتها، وبكلّ الجهات التي أنيطت بها مسؤولية نشر العلم. هذه المؤسّسة بدءاً بالمدرسة وإدارتها، وانتهاءً بالوزارات المختصّة؛ من وزارة التربية إلى وزارة التعليم العالي إلى وزارة الأوقاف إلى وزارة الثقافة إلى وزارة الإعلام، كلّ تلك الوزارات وغيرها من المؤسّسات التي عهد إليها نشر العلم والمعرفة؛ هذه الجهات كلّها تتحمّل مسؤوليّة إشاعة المعرفة ونشر العلم في مجتمعنا على أعلى مستوىً يحققّ أهدافه. والعلم: هو المعرفة الصحيحة التي تهدي إلى السّلوك القويم. المعرفة الصّحيحة بالكون والإنسان والحياة، بوجودنا اليوم وبمستقبلنا في الحياة وفيما بعد الموت، والتي تعرّفنا على ربّنا وعلى الكون الذي نعيش فيه، وعلى أنفسنا وعلى الأرض التي نعيش فيها. هذه المعارف والقيم والتوجيهات السلوكيّة التي تقوّم سلوكنا وتصرفاتنا؛ كلّ ذلك ينبغي أن تتحمّل المؤسّسة التعليميّة مسؤوليّة نشره وإشاعته والقيام على نهضةٍ علميةٍ صحيحةٍ سليمةٍ تنهض بأمّتنا وتنهض بوطننا، وتسمو بهذا الوطن إلى درجةٍ تواجه بها التحدّيات، وترقى به في مدارج العلم والحضارة والمعرفة، التي تسمو بأبناء هذه الأمة إلى علاقاتٍ سويّة فيما بينهم، وإلى منافسة أولئك الذين يتسابقون في ميادين المعرفة والعلم.


والعلم يشمل العلوم التطبيقيّة والعلوم الإنسانيّة، والمعارف التي تسمو بالإنسان إلى تصحيح حياته وسلوكه وعلاقاته، وفي مقدّمتها الأخلاق التي تتمثل في الصّدق والأمانة وطهارة اللسان وحسن التعامل والوفاء وبرّ الوالدين وحسن الجوار وصلة الرّحم، وغير ذلك من القيم الأخلاقية التي أمر الإسلام بها وحضّ عليها وجعلها أُسساً للمجتمع الإسلامي السّليم.


هذا الجانب ينبغي أن يعتنى به، وإنّما يعتنى به من خلال غرس العقيدة الصحيحة التي تصححّ فهم الإنسان لنفسه، وتصححّ فهم الإنسان لما بعد موته وتعرّفه بخالقه وتعرّفه بالموقف بين يديه. والذي ينبغي أن يكون على أهبة الاستعداد لذلك الموقف؛ من خلال سلوكٍ قويم،ٍ وفهم ٍسليمٍ ومن خلال علاقاتٍ صحيحة يبنيها مع مجتمعه، ومن خلال شجاعةٍ وجرأةٍ يواجه بها ما قد تتعرّض له أمّته من مخاطر أو تحدّيات، ولا سيما في عصرنا الذي سال فيه لعاب أعداء هذه الأمة للطمع بمقدّراتها. نحن اليوم ينبغي أن نغرس في نفوس وعقول أبناءنا معاني الشّجاعة والبطولة والوفاء والجرأة والأخلاق السّامية، التي تمتّن علاقات أبناء المجتمع فيما بينهم وتجعلهم جسداً متماسكاً يواجه المصاعب والتحدّيات التي يتعرّض لها وطننا وتتعرّض لها أمّتنا.


أما المقوّم الآخر فهو المعلّم؛ أرأيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم كيف وصف نفسه قال: ((إنما بعثت معلّماً))؟! صلى الله عليك يا سيدي يا رسول الله، يا أوّل المعلّمين وقدوة المعلّمين. المعلّم.. وهل أسمى من المعلّم الذي عُهدَ إليه بصناعة الإنسان فكراً وأخلاقاً وعقيدةً وسلوكاً وقيماً، والذي يغرس في نفوس أبنائه الطلبة تلك القيم ويسلمهم المادة العلمية بأمانةٍ وإخلاصٍ وبدقّةٍ وحرص؟! على أن تكون هذه المادة قد وصلت إلى عقولهم وتفهموها جيداً لكي يكون هذا المعلّم قد تولى المهمة التي عُهدَ إليه بها بكلّ أمانة وكلّ شعور بالمسؤوليّة.


المعلّم هو بالدّرجة الأولى قدوةٌ للطّلبة، ينظر الطلّاب إلى المعلّم على أنه مثلٌ، فإن صدق صدقوا وإن كذب كذبوا، وإن كان أميناً كانوا أمناء، وإن انحرف أدى ذلك إلى ضياع طلابنا وضياع مجتمعنا، لأن طلابنا هم المجتمع.. هم المستقبل.. هم الأمّة التي ننتظر، والتي على يديها سيكون مستقبل هذا الوطن.


على المعلّم أن يتحمّل مسؤوليّة تلقين طلابه المعلومات بأن يكون هو متمكناً منها ومن ثم بأن ينقلها إليهم بكل مسؤوليّة.. وبكلّ أمانة.. وبكلّ صبر. وبالأسلوب الذي يؤدّي إلى حسن فهم هؤلاء الطلاب لمناهجهم والمقرّرات التي يجب عليه أن يدرّسها لهم. المعلّم عُهدَ إليه بأمور كثيرة، ينبغي أن يكون في ذلك دقيقاً في تلقين الطلاب للمعلومات، وفي أمانة الاختبارات، بأن تكون الامتحانات صحيحةً ودقيقةً، والنتائج سليمةً وأمينةً. بذلك يكون المعلّم قد قام بمسؤوليّته على النّحو الذي ينبغي، مع شعوره بالمسؤولية ليس تجاه وزارته المختصّة فقط، بل مسؤوليّته قبل ذلك بين يدي ربّه سبحانه وتعالى.


أما المناهج؛ فإنه يجب أن تكون هذه المناهج شاملةً ومتنوعةً، لتبني الإنسان المتكامل في شخصيته وأخلاقه ووعيه للواقع وإدراكه للمخاطر والمشكلات التي قد يتعرّض لها وطنه، وقد تتعرض لها أمته. نحن ينبغي أن نكون على درجةٍ عاليةٍ من الوعي وإدراك ما يحاك ضدّ أمتنا وضدّ وطننا. وبهذا نحصّن أنفسنا من المكائد والمؤامرات. ولولا تميز أمّتنا في هذا البلد العظيم بوعيٍ في الكثرة الكاثرة من أبنائه، لما استطاع أن يواجه خطراً عظيماً أحدق بهذه الأمة وبهذا الوطن. تآمرٌ عالميٌّ على هذا الوطن لم يكن من السّهل أن يواجَه لولا سلاح الوعي والإخلاص لمقدّرات هذا الوطن ولمستقبل هذا الوطن ولسلامة هذه الأمّة من المكائد التي تحاك ضدّها. كلّكم يعلم ويشعر بالمكائد التي تحاك من هنا وهناك.


فالمناهج التي تكون ملقِّنة لأبنائنا ولجيلنا أسباب الوعي والإدراك للمخاطر التي تحاك ضدّ أمتنا وضد وطننا، ضدّ هويتنا وضدّ ثقافتنا، ضدّ الأصول التي نستمدّ منها أسباب وجودنا وأسباب بقائنا. ومما تستلزمه هذه المناهج تعميق المعرفة بالعلوم الطبيعيّة والإنسانيّة وغيرها، التي من شأنها أن نسمو بأبنائنا إلى معرفةٍ ساميةٍ صحيحةٍ، تصححّ فهمهم لهذا الكون وتجعلهم قادرين على استثمار مقدراته واستثمار طاقاته بالأساليب العلميّة الحديثة المتطوّرة.


وأقول هنا: إن أداة العلم إنّما هي اللغة، ونحن مؤتمنون على اللّغة العربية أن تكون وسيلة التواصل بين الإنسان ومعارفه، ووسيلة التواصل بين أبناء هذه الأمة من مشرقها إلى مغربها. إن وسيلة التفاهم مع كثيرٍ من الشعوب الإسلاميّة غير الناطقة بالعربيّة، إنّما هي اللغة العربيّة. كثيراً ما نزور بلاداً غير عربية فتكون همزة الوصل فيما بيني وبين أخي المسلم هنا وهناك، إنمّا هي اللغة العربيّة.


كانت هذه اللغة وستبقى الجسر الذي يوحّد هذه الأمة عرباً وغير عرب، والعربية ليست عرقيةً، العربية، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ليست العربيّة منكم بأبٍ ولا بأم، إنما العربيّة اللسان فمن تكلّم العربيّة فهو عربيّ)). نعم هذا القرآن - أو هذه اللغة - كانت تلك الجسور التي تصل فيما بين أبناء هذه الأمّة، ولا سيّما أبناء أمّتنا التي أراد عدونا أن يمزقها.. إرباً إرباً، بدعوى المذهبيّة أو بدعوى الطائفيّة أو بدعوى العرقيّة. كلّ تلك الدعاوى سقطت أمام وحدة هذه الأمة، وجسر وحدتها إنما هو اللّغة التي تجمعني مع أخي في مشرق العالم العربيّ ومغربه، ومن شماله إلى جنوبه، وتجمعني أيضاً بالمسلمين في شتّى أقطار الأرض. كذلك ينبغي أن نعنى بالتربية الدينية على اختلاف نحل أبناء هذه الأمة، ولا سيما بالنسبة لنا التربية الإسلامية التي هي الأساس للبناء الأخلاقيّ.


إن الذين يدعون إلى بناءٍ أخلاقيٍّ مجرّدٍ عن العقيدة والإيمان والدّين إنما يستنبتون البذور في الهواء. عملٌ فاشلٌ لا يؤدّي إلى أيّ نتيجة. إنّ غرس القيم والمبادئ والأخلاق؛ إنما يكون على ركيزةٍ من العقيدة السليمة الصّحيحة، التي من شأنها أن توقظ في قلوب أبناء هذه الأمة الوازع الداخليّ والدافع الداخليّ، الوازع الذي يمنعهم من الانحراف والانسياق وراء مطامع نفوسهم، والدافع إلى الخير والتقدّم والحضارة والدّفاع عن مقدّرات هذه الأمة وقيمها.


وأخيراً أقول؛ أمّا طلابنا، تلك الأمانة التي عهد الله إلينا بها تربيةً، أقول لهم: أنتم الذين أثنى عليكم النبي صلى الله عليه وسلم عندما قال: ((الدنيا ملعونة ملعون من فيها إلا عَالِمٌ أَوَ مُتَعَلِّمٌ)) أشار إلى كليهما، لا خير في أحد منا إلا إذا كان عالماً أو متعلماً، وقال أيضاً: ((خيركم من تعلم القرآن وعلمه)) والقرآن علمٌ من العلوم، وليس هناك أسمى من أن يكون الإنسان يدرج في طلب العلم. ألم يقل لك النبي صلى الله عليه وسلم: ((منْ سَلَكَ طَريقًا يَبْتَغِي فِيهِ علْمًا سهَّل اللَّه لَه به طَريقًا إِلَى الجنةِ))؟!


هنيئاً لك عندما تسلك سبيل التعلّم ليكون سلّم رقي أمّتك.. وتقدّم أمّتك.. وحضارة أمّتك، فكن أميناً على ما عُهد إليك من معلوماتٍ وكن مستقيم السلوك، وكن ذلك الطالب الدؤوب الذي تبذل الدّولة ومؤسّساتها والمعلّمون وجهودهم كلّ الطاقات من أجل صناعة الإنسان فيك، الإنسان الرّاقي.. الإنسان المتقدّم.. الإنسان الواعي.. الإنسان المتحضّر. نعم تصنع منك مستقبل هذه الأمة وحضارتها وقوّتها ومقدّراتها.


أسأل الله سبحانه تعالى أن يوفقنا لنهضةٍ علميةٍ تسمو بأمتنا وتنهض بوطننا حتى نكون في مستوى المسؤولية بين يدي ربنا وأمام تاريخ أمتنا.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين.


تحميل



تشغيل

صوتي
مشاهدة