مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 02/08/2019

خطبة الدكتور توفيق البوطي: عشر ذي الحجة

أمّا بعد فيا أيّها المسلون؛ يقول ربّنا جلّ شأنه في كتابه الكريم: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ۚ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}، ويقول ربّنا جلّ شأنه: بِسْمِ اللَّـهِ الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ {وَالْفَجْرِ* وَلَيَالٍ عَشْرٍ* وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ* وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ*هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ}. وقد روي في صحاح السّنة عن النّبي e أنه قال: ((ما من أيامٍ العمل الصّالح فيها أحبّ إلى اللَّه من هذه الأيام العشر)) ويقول e: ((العِبَادَةُ في الهَرْجِ كهِجْرةٍ إلَيَّ)).



أيّها المسلون؛ يتوافد ضيوف الرّحمن إلى الحرمين الشريفين؛ إلى مكّة المكرّمة وإلى المدينة المنوّرة ليحظوا بالحجّ إلى بيت الله الحرام، وبزيارة الحبيب المصطفى e. وإذ نهنّئ من قدّر الله تعالى له نصيباً في أن يكون في عداد ضيوف الرّحمن، ويسّر له الأسباب أن يصل إلى مكّة فيحجّ ويعتمر، ويصل إلى المدينة المنوّرة، ويكحّل مآقيه بالنّظر إلى الحجرة النبوية الشّريفة والصّلاة في الرّوضة المشرّفة. أقول: أرجوا الله U لمن لم يٌكتب له نصيبٌ في هذا العام، أن يقدّر الله له نصيباً في أعوامٍ قادمة. وأسأل الله تعالى لضيوف الرّحمن القبول والسّلامة والعودة إلى ذويهم بتمام القبول والعافية.



وبعد، فكم ممّن يطوف حول الكعبة المشرفة جسده هناك وقلبه غائب. وكم ممّن نأت به البلاد وقعدت به الأسباب، وقلبه متلوّعٌ متشوّقٌ، تطوف الكعبة حول قلبه. لذلك، عزاؤنا أن هؤلاء الذين لم يحظوا على شوقٍ ورغبةٍ وتطلّعٍ أن يكرمهم الله U بثوابٍ لا يقلّ إن شاء الله عن ثواب أولئك الذين قدّر الله لهم أن تكتحل مآقيهم برؤية الكعبة المشرّفة ورؤية الرّوضة المطهّرة سائلاً الله تعالى القبول للجميع.



على أنّ ربّنا تبارك وتعالى قدّر أن يعزّي هؤلاء الذين لم يقدّر لهم نصيبٌ من الذهاب إلى الحرمين الشرفين، أن يعوّض عنهم تعويضاً عظيماً إذا ما أحسنوا استثمار هذا التعويض. أمران أكرمنا الله U بهما؛ أمّا أحدهما، فما أخبر به النبي e عن هذا العشر، وما نوّه الله U عنه إذ أقسم بالعشر فقال: (وَالْفَجْرِ* وَلَيَالٍ عَشْرٍ)، لما لهذه الأيام من منزلةٍ عظيمة،ٍ ولما للمتقرّب إلى الله والمقبل عليه، التائب إليه، المصطلح معه، والذي أحسن الاستفادة من هذه الليالي والأيام، فأنفق أوقاتها في العبادة والطّاعة والاستغفار والإنابة والقربات. فكان في ذلك - كما قال e - قد حظي بأعظم ما في السّنة كلّها من أيامٍ مباركةٍ ذات فضلٍ ومنزلة. فقد قال النبي e: ((ما من أيامٍ العمل الصّالح فيهن أحبّ إلى اللَّه من هذه الأيام العشر، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجلٌ خرج بنفسه وماله ولم يرجع من ذلك بشيء)).



ولاحظوا أنّ النّبي e أتى بكلمة العمل الصّالح بـ(الـ) الجنس التي تستغرق أنواع العمل الصّالح؛ من استغفارٍ وذكرٍ ودعاءٍ.. إلى صدقاتٍ وإنفاقٍ وبذلٍ.. إلى صيامٍ وقيامٍ وتلاوة قرآن.. إلى غير ذلك من صلة رحمٍ وحسن جوارٍ.. إلى غير ذلك من أعمالٍ ومبرّاتٍ تعدّدت فلم تنحصر. أقول: فرصةٌ سانحةٌ لا يضيّعنّ الحريص على آخرته هذه الفرصة، ولينتهزها وليستثمرها أفضل استثمار.



والأمر الآخر، أنّ الأمة تطوف بها هذه الأيام فتنةٌ، ما أظنّ أن فتنةً مرّت بتاريخ هذه الأمّة أشدُّ من هذه الفتنة. تكالبت قوى الشّر من مشرق الأرض إلى مغربها ضدّ أمّتنا وضدّ بلادنا. وفي مثل هذه الحالة، يقول e: ((العِبَادَةُ في الهَرْجِ – أي في الفتنة - كهِجْرةٍ إلَيَّ)). فيا من لم تفتنْك هذه المحن وهذه الشدائد، ولم تنزلق بك قدمك، ولم تنحرف بك مسيرتك، ولم تشذّ عن الطّريق ولم تضعف همّتك، بل تضاعفت همّتك إقبالاً على الله وتقرّباً إليه فجعلت لياليه تضرّعاً إلى الله وابتهالاً إليه، وأيّامه قرباتٍ وعباداتٍ تتقرّب بها إلى الله سبحانه، أبشر فأنت بمنزلة من هاجر إلى رسول الله e إذ قال: ((عِبَادَةُ في الهَرْجِ كهِجْرةٍ إلَيَّ)).



وعزاؤنا أنّ كرم الله U لا تحدّه أرضٌ ولا منطقة، فهذه البشارة بالعشر وهذا الموسم الشّريف المبارك، تشمل كل مسلمٍ من مشرق الأرض إلى مغربها. وأذكر في ذلك أولئك الذين قعدت بهم الأسباب، وحيل بينهم وبين الوصول إلى بلد الله الحرام ومدينة المصطفى عليه الصلاة والسلام. أقول: أبشروا.. فلن يفوتكم الحظّ ولن تفوتكم الفرصة، فلقد بسط الله تعالى لكم مائدة فضله وإحسانه، وأجزل لكم في عطائه ومنّه وفضله وثوابه.. فكانت هذه الأيام أعظم من أيّام السّنة كلّها. فلا تقعدنّ بكم الهمّة، ولا يضعفنّ بكم النّشاط، في أن تبذلوا وسعكم في شتّى أنواع القربات إلى الله جلّ شأنه.



أقول لمن لم يحظ في هذه السنة بفرصةٍ إلى الحجّ مع شوقٍ وتلهّفٍ: لم تتوافر شروط وجوب الحجّ عليك. وما قد وفّرته لتحظى بأن تكتحّل مآقيك برؤية الكعبة المشرّفة، بوسعك أن تتقرّب بذلك المال والوفر، في عملٍ قد يفوق أجره الحجّ إلى بيت الله الحرام وزيارة النّبي e. إذا أسعفت فقيراً شرّدته الفتنة وأوجعتْ قلبه وأوهنت بيته، فمددت يد المساعدة إليه ليرمّم بيته؛ أنا أقول: إنّي لأرجو الله U أن يكون ثواب هذا الرجلّ أضعاف ما قد يناله حاجٌّ تيسّرت الأسباب له ولكنّه قد ضعف عن بسط يد المساعدة لأمثال هذا الإنسان.



كم من إنسانٍ شرّدته الفتنة وأوقعت فيه أنواعاً من البلاء، فصار بحاجةٍ إلى أن ننهض بشأنه، فهو جزءٌ منا وهو واحدٌ منا، وألمه ألمنا ومصيبته مصيبتنا. فبسطُ يد المساعدة إليه ثوابه يفوق من حجٍّ يمكن أن يكون فيه سعة، ولكن مع غفلةٍ عن حاجة أولئك الذي نتحدّث عنهم. وربّ مريضٍ ضعفت به الحال، وقلت ذات يده فلم يستطع أن ينهض بشأن نفسه، وأوجعه المرض وأنهكه، فبسطتَ يد المساعدة إليه ونهضتَ بشأنه، فخففّت مصابه وكنت سبباً في شفاءه؛ لك من الأجر ما قد يفوق أجر حجّك إذا كتب الله لك الحجّ.



أبواب الخير لا تنحصر في الحجّ إلى بيت الله الحرام. هنيئاً لمن قدّر الله له الحجّ، ولكن من قعدت به الأسباب، لا يظنّنّ أن باب الرّحمة الإلهية قد أوصدت دونه، بل لقد فتح الله له من أبواب رحمته وفرص التقرّب إليه الكثير الكثير. فلينهض إلى مساعدة إخوانه والّنهوض بشأنهم، فثوابه في ذلك أعظم بكثيرٍ من ثواب القادر على الحجّ الذي تيسّرت له أسبابه والله تعالى أعلم.



على أننا نقول: إننا لنأسف أشدّ الأسف، أن يحال بين أبناء وطننا وبين الذهاب لأداء فريضة الحجّ عبر الوسائل الرّسمية والمألوفة، حتى يضطرّ البعض إلى أن يسلك إلى ذلك سبيل السّماسرة وشركاء الظّلم. أقول: إنّ هؤلاء الذين تلوّعت قلوبهم شوقاً وتلهّفت لرؤية الكعبة المشرّفة والطّواف حولها والوقوف بعرفة، وحيل بينهم وبين ذلك. أرجوا الله U أن يجعل من شوقهم شفيعاً وسبباً لأجرٍ عظيمٍ يكرمهم الله U به. أمّا أولئك الذين صدّوا عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه، فلهم موقفٌ بين يديّ الله، لا بدّ أن يمثلوا بين يديّ الله، والله سائلهم عن وضع العوائق في طريق الرّاغبين في الحجّ إلى بيت الله الحرام. يصدّون عن سبيله، يصدّون عن المسجد الحرام، لا بدّ أن ينالوا جزاءهم مذلّةً في الدنيا وعقوبةً في الآخرة، وعند الله تجتمع الخصوم.



أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين.



تحميل



تشغيل

صوتي
مشاهدة