مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 26/07/2019

خطبة الدكتور توفيق البوطي: مشاهد من حكمة الله

أمّا بعد فيا أيّها المسلمون؛ يقول ربنّا جلّ شأنه في كتابة الكريم: (وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ *وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ* وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَىٰ بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنفُسِ ۚ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ* وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً ۚ وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) ويقول سبحانه: (وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ).


أيّها المسلمون؛ وقفنا في الأسبوع الماضي أمام مشاهد تدلّنا على الفاطر الحكيم، وتشرقُ في قلوبنا أسبابَ محبّته والإيمان الوطيد به سبحانه وتعالى؛ لعظيم حكمته وعظيم إحسانه وعظيم نعمه. واليوم نقف أمام مشهدين عظيمين جديرين بالاهتمام والتأمّل.


أما المشهد الأول؛ فهذه الأنعام التي قال فيها ربّنا سبحانه: (وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ*وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ ۖ أَفَلَا يَشْكُرُونَ). الإبل والبقر والغنم والماعز.. هذه الحيوانات طوّعها الله لخدمتك؛ فجعل من ألبانها غذاءً لك، وجعل من أصوافها وأوبارها سبباً لدفئك لبساً وجلوساً وسكناً، وجعل منها خادماً أميناً. طوّعها لك حتّى إلى مقتلها؛ فلم تتمرد ولم تعترض وصارت طوع خدمتك. تجد القطيع من الغنم فيها المئة وأكثر، يقودها واحدٌ فتنقاد له. يتغذّى من ألبانها، وينال منها ويأخذ من أصوافها، بل ويأكل من لحمها، وهي رهن إشارته وطوع خدمته.


والشاة منها أقوى منه. الواحدة من هذا القطيع أقوى من ذلك الرجل، وأسرع منه لو فرّت منه، لكنّها تنصاع له بكلّ طواعية. سخّرها له لتكون طعاماً وشراباً وخدمةً وغذاءً ودفئاً وعافيةً. (وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ).


هل فكّرت في ذلك؟! هل فكّرت في تلك الوسائل التي تركبها؟! (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً ۚ وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) تأمّل معي هذه الإشارة اللّطيفة من إعجاز كتاب الله. امتنّ على أهل ذلك الزمان بالخيل والبغال والحمير بقوله: (لِتَرْكَبُوهَا) وأشار إلى شيءٍ آخرَ وهي الزينة؛ فهي متعةٌ ورفاهيةٌ. ثم قال لنا: (وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ). ألم يخلق لنا ما لم يكن يعلمه أبناء ذلك الجيل من وسائل الرّكوب والانتقال التي سخّر الله لها أثقل المعادن، وجعل تلك المعادن تمضي في الهواء لتحملك من بلدٍ إلى بلد بسرعةٍ هائلة؟! أرأيت كيف خلق لك ما لا يعلمه أبناء ذلك الجيل؟!


ما الذي ميّز هذه البهائم والأنعام لتكون طوع إرادتك وفي خدمتك؛ ألبانها غذاءٌ لك.. لحومها غذاءٌ لك.. أصوافها وأوبارها ملابسٌ ومجالسٌ من أجلك. كل ذلك يمتنّ الله تعالى بها عليك. ما الذي ميّز الغنم والماعز عن أوابد الحيوانات.. عن تلك الوحوش. ما الذي ميّز الحمار الأهليّ عن الحمار البرّيّ؟! ما الذي ميّز الكلب عن الذئب، والهرّ عن الثعلب؟! ما الذي ميّزه فجعل هذا طوع خدمتك، وجعل ذلك نائياً عنك.. نفوراً منك.. خطراً عليك؟!  


هل تأمّلت كيف سخّرها ربّنا سبحانه وتعالى لك (وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا منه). على العاقل أن يتأمّل ويدرك أن هذا الكون له منظّمٌ.. له خالقٌ، وأنّ هذا الكون قد جعل الله تعالى للإنسان فيه منصباً عظيماً؛ منصبَ السّيادة.. منصب الخلافة عن الله U ليكون ممثّلاً لعدالة الله U، ومظهراً لحكمة الله سبحانه وتعالى، فسخّر له ما في السماوات وما في الأرض، قال سبحانه: (وَسَخَّرَ لَكُم). لأنك بما حباك الله من عقلٍ، وما حباك إيّاه من مدارك؛ استطعت أن تستثمر الكثير الكثير من طاقات ومخلوقات هذه الأرض التي خلقت عليها. أمّا تلك الحيوانات فإنما تستفيد من خيرات هذه الأرض عرَضاً وليس من خلال تفكيرها أو إبداعها.


تأمّل هذا المشهد الآخر: (وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) هل فكّرت في هذه الكلمة؟! إنه وحيُ إلهامٍ ووحي تعليمٍ، وأيّ تعليم.. تعليمٌ تعجز العقول عن إدراك أبعاده وعظمة دقائقه: (وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ). علّمها بناء مجتمعٍ عجيبٍ من نوعه؛ حيث هناك ملكةٌ وعاملاتٌ وحرسٌ وشغالاتٌ وحراسةٌ واستطلاعٌ.. وغير ذلك مما يعجز الإنسان عن تفاصيله.. دولةٌ عجيبةٌ من نوعها منظّمةٌ أيّما تنظيمٍ من أجلك.


 (وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) هل تأمّلت كيف تنطلق هذه النّحلات العاملات، الجانيات للرّحيق من هنا ومن هناك؛ تمضي الكيلومترات لكي تجني ذلك الرّحيق، وتصنع منه الشمع والعكبر والعسل، وتصنع من العسل خاصّة عسلاً يغذّي الملكة، التي هي بحاجة خاصّةً إلى ذلك، لما لها من وظيفةٍ عجيبةٍ في تكوين هذه الدولة، دولةٌ عجيبةٌ..


ثم أوحى ربك إلى النّحل أن تصنع تلك الأواني أو تلك الخلايا السّداسية من الشّمع. تلك البيوت أو تلك الأواني التي يودع فيها العسل، مقاييسها دقيقةٌ دقّة تذهل العقول. سلوا علماء الرياضيات عن مقاييس البيوت الشّمعية السّداسية للعسل؛ بأيّ دقّة من القياس قد صَنعت تلك البيوتَ، لكي تحفظ فيه العسل؟! ثم العسل؛ أيّ مصنعٍ كيميائيٍ؟ أي صيدلاني أعدّ هذا الشّراب الذي فيه غذاءٌ وشفاءٌ لكثيرٍ من العلل والأمراض. غذاءٌ لجسمك وشفاءٌ من العلل، (فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ). هذه النحلات؛ من الذي علّمها ودرّبها على صناعة هذه البيوت المسدّسة العجيبة في دقّتها، الرّائعة في نظامها، والموحّدة في مقاييسها، من أرجاء الشّرق والغرب، والشمال إلى الجنوب؟! من الذي علّمها تلك الحسابات الدّقيقة في صنع تلك البيوت لكي تحفظ فيه عسلها؟! هل فكّرت في هذا وتأملت في عظيم خلق الله U؟!


أهي المصادفة أم هي العفوية؟! سلوهم.. هل هناك مجالٌ للمصادفة في هذا؟! المصادفة علاقةٌ عابرةٌ لا ينشأ عنها نظامٌ مطّرد. ما نراه هو نظامٌ مطّردٌ في عالم النّحل، من أقصى الدنيا إلى أقصاها. هو نظامٌ وليس عفويةٌ. وراء هذا النّظام إلهٌ عظيمٌ عليمٌ خبيرٌ، أحكم النّظام في هذا الكون، من الخليّة إلى الكواكب والمجرات.


قل للملاحدة: حرّروا عقولكم من العناد والمكابرة. اليوم لديكم مجالٌ للتفكير وإعادة النّظر في مواقفكم، وإعادة النّظر في طريقة تأمّلكم، لا تكابروا.. اليوم عملٌ ولا حساب. لكن تدبّر وتأمّل، هل أنت مصرٌّ على هذا الموقف عندما تبرد أطرافك وتتحشرج أنفاسك في صدرك؟ وعندئذٍ تقول: (رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ)؟! أولى بك أن تفكّر الآن في نفسك.. في الأرض.. فيما سخّر الله لك من كائناتٍ.. فيما وظّف الله من أشياء.. تأمّل في نفسك.. تأمّل في خلقك.. تأمل في وجودك..


نعم؛ نحن بحاجةٍ إلى أن نحرّر عقولنا ونتأمّل عظيم خلق الله لنا.


وبعد يا أيّها المسلون؛


فنحن بعد أيامٍ مقبلون على موسمٍ من أعظم مواسم السّنة. إنه عشر ذي الحجة، الذي أقسم الله به فقال سبحانه: (وَالْفَجْر* وَلَيَالٍ عَشْرٍ* وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ * وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ). وقال e: ((مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ اْلأيَّامِ الْعَشْرِ، فَقَالُوا: وَلا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ e: وَلا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْء((. إنّها فرصةُ وكما قال رسول الله e: ((ألا إن لربكم في أيام دهركم لنفحات ألا فتعرضوا لها)). ثم لاحظ كيف أنّ النبي عممّ فقال: (العمل الصالح) ليشمل كل الأعمال الصّالحة؛ من صيامٍ إلى صدقةٍ إلى ذكرٍ إلى دعاءٍ إلى تلاوة قرآنٍ إلى صلة رحمٍ.. كل ذلك قرباتٌ تشتري بها رضوان الله U.


أسأل الله أن يوفّقنا لطاعته، وأن يرزقنا حبّه والإقبال على ذكره والعمل بما يرضيه.


أقول قولي هذا. وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين.


تحميل



تشغيل

صوتي
مشاهدة