مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 01/11/2019

خطبة الدكتور توفيق البوطي بتاريخ 1 / 11 / 2019

خطبة الجمعة للدكتور محمد توفيق رمضان البوطي


في جامع بني أمية الكبير بدمشق بتاريخ 1 / 11 / 2019


أمّا بعد فيا أيّها المسلمون؛ يقول ربنا جلّ شأنه في كتابه الكريم: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) وقال سبحانه: (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ۖ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَٰذَا سِحْرٌ مُبِينٌ) ويقول سبحانه: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ ۚ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَىٰ ذَٰلِكُمْ إِصْرِي ۖ قَالُوا أَقْرَرْنَا ۚ قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ).


رسول الله ﷺ دعوة سيدنا إبراهيم وبشارة سيدنا عيسى. جديرٌ بنا - مع إطلالة شهر ربيعٍ الأنور - أن نستذكر سيرته العطرة، ونقف عند مشاهد من تلك السّيرة العظيمة، التي كانت بدايةً لتحوّلٍ عظيمٍ في تاريخ البشرية، ولرحمةٍ رحم الله تعالى بها الإنسانية. جديرٌ بنا أن نتصفّح سيرة النبي ﷺ في هذا الشهر المبارك، لكي تتوثق صلتنا به عليه الصلاة والسلام. فمحبّة النبي عليه الصلاة والسلام قرينةٌ لمحبة الله وأوّل علامات الإيمان. ثلاث من كنّ فيه كان مؤمناً خالصاً: الأولى منها؛ أن يكون الله ورسوله أحبّ إليه مما سواهما، والثانية منهما أن يحبّ الرّجل لا يحبّه إلا لله، والثالثة أن يكون متشبثاً بدينه حريصاً على إيمانه، فيكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار. هكذا أخبرنا النبي الكريم ﷺ.


نعم؛ جديرٌ بنا في هذا الشهر المبارك أن نتجوّل في روضة سيرته، ونتنسّم عبير هديه في صفحاتٍ مشرقةٍ لطيفةٍ من حياته ﷺ.


ولد عليه الصلاة والسلام -كما ينبغي ألا يجهل مسلمٌ- في عام الفيل المصادف لعام 571 للميلاد. عام الفيل الذي يشير إلى حادثةٍ أراد فيها أبرهة الحبشي أن يغزو مكة ويدمر الكعبة، وقاد جيشه على فيلةٍ حتى وصل إلى مداخل مكة. وعند مداخل مكة، أبى الفيل أن يدخل إلى مكة، وحاولوا معه دون جدوى، ثم حوّلوا وجهته إلى وجهةٍ أخرى فأسرع مستجيباً، فلما حوّلوه إلى مكة، أبى أن يدخل مكة. نعم؛ أراد أبرهة أن يهدم الكعبة وأراد الله أن يحمي الكعبة. أراد أن يدمّر بيت الله وأراد الله أن يحمي بيته، فأرسل طيراً أبابيل؛ أي أسراباً وجماعاتٍ، ورمت جيش أبرهة بحجارةٍ من سجّيل؛ أي بحجارة من طينٍ مطبوخ؛ مشويّ. لكنها ليست كالحجارة، لأنها تحمل العذاب والهلاك، فجعلهم كعصفٍ مأكول؛ بدّدهم ودمّرهم وأهلكهم عن آخرهم، إلّا من يخبر بخبرهم. كان ذلك قبل ولادة المصطفى ﷺ بخمسةٍ وخمسين يوماً، وكانت براعة استهلالٍ وإشارةً إلى قرب مولد الرحمة المهداة إلى البشرية. فمكة هذه هي مولده.. هي موطنه ومسقط رأسه.. فلا بدّ أن يحيطها الله بعنايته وحمايته.


ولد النبي ﷺ يتيماً. وكيف كان ذلك؟! تزوّج عبد الله من السيدة آمنة، صاحبة الحظّ السعيد بأن تكون أمّ خير البشر. وبعد زواجه بأشهرٍ قليلة، توجّهت قافلةٌ وكان هو فيها إلى بلاد الشام في تجارة. وفي طريق العودة، وعند الأبواء قرب المدينة المنورة في طريقهم إلى مكة، مرض عبد الله ولم يطل مرضه فتوفّي، وزوجته حاملٌ بالنبي ﷺ. إذن ولد النبي ﷺ يتيماً.. تجرّع مرارة اليُتم قبل أن يولد، ليأتي إلى الدنيا ولا يرى أباه، وفي ذلك عزاءٌ وحكمة.. عزاءٌ لكل يتيمٍ وحكمةٌ سندركها إن شاء الله في فرصة قادمة.


وكان من عادة العرب، ولا سيما أهل مكة أن يسترضعوا أولادهم رغبةً في أن ينشأ الولد في أيامه الأولى في بيئةٍ نظيفةٍ ولغتها نقيّة. وجاء المراضع فزهدوا بنبينا محمدٍ ﷺ عن أن يأخذوه ليُتمه، ذلك لأنه يتيم وهن يأخذن الرضيع طمعاً في الأعطيات، فكنّ يتصوّرن أن محمداً ﷺ ليس له أبٌ، ومن ثمّ فإن الأعطيات لن تكون وفيرةً كغيره.


ولما وجدت حليمة أنها ستعود خالية الوفاض، رضيت بأن تأخذه إلى ديارها؛ ديار بني سعد. ديار بني سعد التي كانت مقحطةً.. أرضها جدباء.. أغنامها ضامرة الثدي.. ضروعها لا تندّ بلبنٍ.. ولبن حليمة نتيجةً ذلك لا يكاد يكفي لولدها. إنما كانت ترجو سعةً في الرزق بأعطيات أهله؛ لأنّ ضائقة المعيشة اضطرتها أن تأخذ الوليد إلى باديتها. لكنها ما أن وضعت الوليد المبارك الحبيب المصطفى ﷺ على صدرها حتى فاض صدرها لبناً، فشبع ولدها عبد الله وشبع محمد بن عبد الله ﷺ وارتويا. أمرٌ عجيبٌّ! لم تكن كذلك.. وعادت إلى باديتها، فأمرعت أرضها وامتلأت ضروع أغنامها..كما يذكر علماء السّيرة بإجماع. فقال لها زوجها: (والله يا حليمة لقد جئت بنسمةٍ مباركة). أشارت هذه الأمور إلى أن هذا الطفل الرّضيع، -سيد الكون.. سيد البشرية- سيكون له شأنٌ عظيم. فما جري له أثناء ولادته وبعد ولادته وخلال استرضاعه من أمورٍ لفتت الأنظار إلى أن هذا الوليد له شأن، تمهيداً وإرهاصاً لما سيكون من شأنه ﷺ، إذ سيكون مصباح البشرية ونور الهداية للإنسانية كلها.


 كان من عادة المراضع أن يردّوا رضيعهم إلى أهله وذويه بعد سنتين، فلما وجدت حليمة البركة فيه وأحبّته، رجت أمه أمنة أن تستبقيه عندها حرصاً على صحّته، والحقيقة أنه حرصاً على البركة التي وجدتها بسببه. فقالت لها آمنة: (والله ليكونن لولدي هذا شأنٌ عظيم) لأنها رأت من العلامات ما يشير إلى ذلك.


بقي عند حليمة إلى السنة الثالثة أو يزيد.. وحدثت حادثةٌ رواها الإمام مسلم وعلماء السيرة وصحاح السنة؛ أن النبي ﷺ بينما كان يلعب مع الغلمان مع أخيه من مرضعته، وإذ برجلين يأتيان فيأخذان محمداً ﷺ ويقول أحدهما: (أهو هو؟) فقال: (إنه هو)، وأضجعاه أرضاً. فزع الأطفال والغلمان، وهرعوا إلى حليمة السعدية، وقال لها ولدها والغلمان معه: (أخي ذاك القرشي أتى إليه رجلان فأضجعاه أرضاً فهما يسوطانه) ظن أنهما يضربانه. والحقيقة أنهما فعلا أكثر من ذلك، ما الذي فعلاه؟ لقد شقّا صدره واستخرجا قلبه وأخرجا من قلبه قطعةً سوداء، وقالا: (هذا حظ الشيطان منك) ثم غسلا قلبه بماء زمزم في إناء من ذهب، ثم أعاداه إلى صدره وخيط صدره مرّةً ثانية. ثم تركاه، ومضى إلى أمه ممتقع الوجه، مصفرّ اللون. لقد خضع لعمليةٍ جراحيةٍ بالهواء الطلق. طبعاً الأمر عجيبٌ وغريب! عندما أخبر أمه مرضعته بذلك، خافت من أن يكون قد ناله مسّ، فعادت به إلى أمه. أمّه التي كانت مطمئنةً. فأكّدت لها أن ولدها هذا لن يناله شيطانٌ ولا شرّ! فهو في ظلّ العناية الربانية.


تُرى ما سرّ هذه الحادثة؟ إذا كانت غدّة الشر تستأصل بعمليةٍ جراحيةٍ، والله فلنهرع لاستئصالها من قلوبنا، إذن، لنستريح من غدة الشر! لا؛ إنما كانت تحمل معنيين: أما المعنى الأول، فإنه إظهارٌ لتميّز شخصية نبينا محمد ﷺ عن سائر البشر، وإرهاصٌ من إرهاصات النبوة ومقدمة من مقدماتها، لكي لا يفاجأ الناس عندما يبعث رسول الله ﷺ. كيف صار نبياً وما رأينا عليه من علامات النبوة شيء! هذه من علامات النبوة. والأمر الآخر، قال: (هذا حظّ الشيطان منك) حظّ الشيطان إذا كان يستأصل..في الحقيقة، هي مظهر عصمة الله لنبيه، لكنها أخذت شكلاً مادياً. العصمة عنايةٌ إلهيةٌ لا نراها، ولكن الله أرى الناس أو أشعر الناس بشكلٍ ماديٍ لها إظهاراً لتميّز شخصيّة سيدنا محمد ﷺ.


تستوقفنا في هذه الصفحة من سيرة المصطفى أمورٌ. الأمر الأول: هذه البركة التي حلّت ببادية بني سعد، وكانت تعاني الجدب والمحل، وكانت مواشيها لا لبن في ضروعها؛ ففاضت باللبن وامتلأت ضروعها وأمرعت أرضها بوجود سيدنا محمد ﷺ.. وجود الحبيب الأعظم ﷺ الذي قال فيه ربنا سبحانه وتعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)..رحمةٌ من قبل ولادته..ورحمةٌ أثناء ولادته. ورحمةٌ في رضاعه.ورحمةٌ في نشأته..ورحمةٌ بعد بعثته..ورحمةٌ من بعد وفاته. إنه الرحمة المهداة التي أرسلها الله إنقاذاً للبشرية وهدايةً لها.


نعم؛ تستوقفنا هذه المسألة، ثم يستوقفنا أخيراً في هذا اليوم أن آمنة احتضنت ولدها ليعيش معها أقل من ثلاث سنوات. وفي رحلةٍ لها إلى المدينة المنورة وفي الأبواء، حيث دفن زوجها عبد الله مرضت، ورأى محمد ﷺ أمه أمام عينيه تودّع الحياة، لكي يذوق مرارة اليُتم مرة أخرى، ولينتقل إلى حضانة جده عبد المطلب. نعم؛ وفي هذا تخفيفٌ من الأسى.. تخفيفٌ من الأسى عن قلوب اليتامى، وإثارةٌ لمشاعر الإنسانية نحو اليتيم، لكي نرعاه؛ فلا تدري هذا اليتيم ماذا يكون من شأنه. لا تعتدينّ عليه.. بل أحنُ عليه، ارْعَه وأحطه برحمتك وبعنايتك، فلربما كان لهذا اليتيم شأن. كان لرسول الله ﷺ بعد يتمه أيّ شأن وأيّ منزلة. نعم رأى أمام عينيه فراق أمه، ولكنه إذ تجرع تلك المرارة، استقبل الحياة مرة أخرى بعقلٍ عظيمٍ وحكمةٍ بالغة. نعم؛ رعاه جده فرأى فيه صبياً، لكنه في عقل الرجال وفي حكمة الرجال، فكان يرعاه ويحنّ عليه ويعتني به، ويقول: (إن لولدي هذا شأناً).


أقول: جديرٌ بنا جميعاً أن نعود إلى سيرة المصطفى ﷺ ونتصفّحها. سيرة النبي ﷺ فيها مزايا. المزية الأولى: أننا لا نروي في سيرته أخباراً ملفّقة، إنما نأخذ تلك الأخبار -أخبار حياته ﷺ- موثّقةً بالأسانيد الصّحيحة، التي يطمئنّ الإنسان إلى صحتها، لكي تروي لنا سيرةً عطرة،ً كانت مقدّمةً لولادة تاريخ أمّة صنعت الأمجاد. لا تنظروا إلى أمتنا اليوم..انظروا إلى أمتنا كيف نشأت على عين رسول الله ﷺ لتنشر العدل والخير والحضارة والإنسانية ما بين الخافقين. لما تمسّكت هذه الأمة بهدي النبي ﷺ، سطّرت أعظم صفحات التاريخ. ولما أعرضت، أعرض عنها المجد وأفل نجمها. وإنها لئن عادت، ليُعيدنّ الله لها مجدها، وليعيدنّ الله لها عزتها.


فلتعد هذه الأمة اليوم إلى هدي رسول الله ﷺ ليعيد الله تعالى إليها انتصاراتها وأمجادها. إنّ التاريخ لا يُصنع بأولئك الأبطال المزيّفين الذين ينشرون الظلم والطغيان في هذه الأرض، إنما يسطّر صفحات التاريخ الرجال الذي تمسّكوا بالمبادئ الصّحيحة السّليمة؛ مبادئ العدالة.. مبادئ الحق.. مبادئ الهدى.. مبادئ الإيمان.. مبادئ مستمدةٍ من السّماء، من هدي الله عزّ وجلّ، وليس أولئك الطغاة الذين ينشرون ظلمهم وبغيهم وعدوانهم هنا وهناك.


هؤلاء حثالة التاريخ.. هؤلاء بصقهم التاريخ.. لئن كان لهم اليوم فرصةٌ، فإنما كانت هذه الفرصة لغياب أهل الحق عن ساحة الحق.. لغيابنا عن هدي ربنا.. لغيابنا عن دورنا الذي عهد الله تعالى به إلينا.


فلنعد إلى ربنا سبحانه وتعالى ولنتمسك بديننا، ولنعد إلى عقيدتنا..لنعد إلى شريعتنا.. لنعد إلى أخلاقنا.. لنعود إلى سدّة المجد، ونصنع الحضارة الجديدة إن شاء الله تعالى.


أسأل الله أن يردّنا إلى دينه رداً جميلاً.. وأن يفرج عن أمتنا فرجاً قريباً.


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين.

تحميل



تشغيل

صوتي
مشاهدة