مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 19/06/2020

خطبة الدكتور محمد توفيق رمضان البوطي بتاريخ 19 / 6 / 2020

خطبة الجمعة للدكتور محمد توفيق رمضان البوطي


في جامع بني أمية الكبير بدمشق بتاريخ 19 /  6 / 2020


أما بعد فيا أيها المسلمون؛ يقول ربنا جل شأنه في كتابه الكريم: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا ۝ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا ۝ وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} ويقول سبحانه: {‏‏وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}. ويقول النبي ﷺ: ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)) وعن النبي ﷺ: ((اعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرًا)).


أيها المسلمون، عندما وقف النبي ﷺ يدعو الناس إلى الإسلام؛ إلى الحق والهدى.. إلى العدل والإحسان.. إلى التراحم وصلة الرحم.. إلى التوحيد؛ واجهه صناديد الشرك واضطهدوه وعذبوا أصحابه ونالوا منهم، حتى قتل من قتل وعمي من عمي وأوذوا أشد الأذى. وضغط المشركون على أبي طالب عم النبي ﷺ لأنه بمكانته الرفيعة في قريش كان يتولاه بالحماية. وضغطت قريش على أبي طالب، ولكن أبا طالب عندما وجد من النبي ﷺ تصميماً وإصراراً على أداء المهمة التي كلفه الله بها، وقف إلى جانبه، ولم يتخل عنه. فاعتبر صناديد الشرك في قريش أن هذا الأمر يعني اتخاذ موقفٍ من أبي طالبٍ نفسه. فعرضوا عليه إما أن يتخلى عن النبي ﷺ فيقتلوه، وإما أن يتعاهدوا على مقاطعةٍ اقتصاديةٍ واجتماعيةٍ جائرة يفرضونها على النبي ﷺ وكل من يدافع عنه أو يتبعه، لكن أبا طالب لم تنثن عزيمته وبقي على موقفه.


ووقعوا صحيفةً جائرةً تتضمن قانون أبي جهل الذي يقتضي حصار بني هاشم والنبي ﷺ وبني عبد المطلب وكل من يقف إلى جانب النبي ﷺ؛ فلا يبيعونهم ولا يشترون منهم، ولا يزوجونهم ولا يتزوجون منهم في مقاطعةٍ جائرةٍ ظالمةٍ. وحوصروا في شعبٍ من شعاب مكة هو شعب أبي طالب. واشتد الأمر على بني هاشم وبني عبد المطلب وعلى الصحابة ممن كان مع النبي ﷺ؛ اشتد الأمر عليهم أيما شدة حتى أكلوا ورق الشجر. ولكن النبي ﷺ وأصحابه ظلوا ثابتين متمسكين بمبدئهم؛ صابرين على المهمة الملقاة على عاتقهم؛ على عقيدتهم. نعم ظلوا متمسكين بموقفهم؛ لم يترددوا ولم ينهزموا، على الرغم من شدة المعاناة، وعلى الرغم من شدة الجوع. لم يعد يصل إليهم إلا القليل من الغذاء؛ يمر خلسةً عن عين الظالم الطاغية أبي جهل الذي كان قد اقترح تلك الصحيفة الجائرة.


وجهاء قريش من أهل الشهامة والمروءة ممن كانت لديهم بقية من الإنسانية والمروءة والشهامة والشرف رأوا أن هذا التصرف لا ينسجم مع مقتضيات الشرف والمروءة. فتباحثوا فيما بينهم ومنهم المطعم بن عدي وزهير بن أبي أمية وأبو البختري بن هشام وآخرون؛ وجدوا أن هذا الأمر فيه من الظلم ما لا ينسجم مع الإنسانية ولا مع المروءة والشهامة. فتشاوروا في نقض تلك الصحيفة، وتزامن هذا الأمر مع وحيٍ أتى النبي ﷺ يخبره أن الله سلط على تلك الصحيفة الجائرة - على قانون أبي جهل - حشرةً تسمى الأرضة، أتت على الوثيقة بكاملها إلا موضع اسم الله تعالى.


فذهب أبو طالب إلى صناديد الشرك يعرض عليهم؛ قال لهم: (أعرض عليكم أمراً. إن محمداً قد أخبرني - ولم يكذبني قط - أن صحيفتكم قد أكلتها الأرضة، هكذا أخبره الوحي عن ربه، فإن كان صادقاً فأفيقوا ولا تظلموا، وإن كان كاذباً أسلمتكم إياه، فإن شئتم قتلتموه وإن شئتم استحييتموه) فقالوا: (قد رضينا). ثم أتوا إلى الصحيفة المعلقة في سقف الكعبة من داخل الكعبة؛ صحيفة الظلم والعدوان والحصار والمقاطعة. وعندما فتحوا الصحيفة، لم يجدوا الصحيفة وإنما وجدوا منها "باسمك اللهم". فقالوا: (هذا سحر محمد!) هذه عادتهم؛ عندما يرون الحقيقة يسمونها سحراً. فلما رأى أشراف قريش ذلك، صمموا على نقض تلك الوثيقة، وأعلنوا في جمعٍ من قريش أن هذه الصحيفة مرفوضةٌ وسوف ننقضها. وأبى عليهم أبو جهل إلا أنهم تمكنوا من نقض تلك الصحيفة.


أيها المسلمون، ما أشبه اليوم بالأمس! قانون الظلم والبغي والعدوان الذي تصدره أمريكا التي قامت على الظلم والعدوان؛ تطالبنا أن ننحني وأن ننهزم وأن نتخلى عن مبادئنا وعن سلامة وطننا وأمتنا. لم ننهزم أمام عدوانهم بكل ما أوتوا من قوة ومن عصاباتٍ دخلت هنا وهناك، نعم لم ننهزم، ولن ننهزم أمام الحصار. فهذه الشام التي تكفل الله بها. قال ربنا تبارك وتعالى: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} هكذا أخبرنا الله تبارك وتعالى، وقال النبي ﷺ: ((إن الله تكفل لي بالشام وأهله)).


أيها المسلمون، إن الأزمات تصنع الأبطال؛ تصنع الرجال. الأزمات مفاتيح الأمجاد والانتصارات. إن النصر مع الصبر وإن الفرج مع الكرب وإن مع العسر يسراً. وينبغي أن نواجه هذا القانون الجائر بالصبر.. بالتضامن بالتكافل.. بالتعاون.. بالتراحم. ووالله إن أمةً يتراحم أبناؤها لن تنهزم ولن تضعف، ولن تنال منها هذه المقاطعة وهذا الحصار أدنى أذىً بإذن الله تعالى. وإن اشتداد ظلمة الليل إيذانٌ بانبثاق الفجر. إن اشتداد الأزمة إيذانٌ بانفراجها، وبهزيمة قوى الطغيان والبغي والعدوان.


علينا أن نتعامل مع هذه الأزمة بأمورٍ منها:


 أولاً على أصحاب القرار؛ تطوير مواردنا الاقتصادية واستثمارها وتوزيعها وفق أفضل القواعد العلمية والاقتصادية التي تحقق حسن التوزيعٍ وحسن الاستثمارٍ، ووفق أسمى القيم الأخلاقية والإنسانية.


الأمر الثاني؛ تنمية النزاهة في النفوس والحرص على معالجة المشاكل التي نعاني منها بتجردٍ عن الأنانية والفئوية؛ فنحن أمام أزمة وطنٍ وأمة، ولسنا أمام أزمة حيٍّ وعشيرة. لذلك، فإن علينا أن نتعامل معها بترفعٍ عن الفئوية والشخصنة. فأنت عندما تبحث عن مصحلتك الذاتية سوف تكون أنت أول ضحايا هذه الأزمة، ولكنك عندما تكون ممن وصفهم الله تعالى بقوله: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} ستجد أنك أنت والمجتمع ستنتصر. أنت والأمة والمجتمع ستنتصر بإذن الله تعالى.


الأمر الآخر؛ أن يكف مرضى النفوس عن الجشع والاستغلال والاحتكار والظلم، وأن يترفعوا عن هذه الأخلاق الذميمة. فنحن في وضعٍ يحرك في النفوس معاني الرحمة والإيثار؛ أن أترك من فمي وأعطي لهذا الإنسان. قال تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}. هكذا كان أهل المدينة تجاه إخوانهم المهاجرين، وهكذا ينبغي أن يكون أبناء مجتمعنا القادرون تجاه الفقراء والمساكين. واليوم الأزمة تنال الجميع، ولذلك ينبغي أن نتعامل معها بتضامنٍ وتكافلٍ. وإن أمةً يتكافل أبناؤها ويتضامنون لن تنهزم ولن تنهار.


ومن الحلول أن ننمّي روح البذل والعطاء والمحبة والإيثار. وهذه الروح ولله الحمد موجودةٌ في وطننا؛ متوافرةٌ في الأشراف، وهم كثر ولله الحمد. الذين تعاملوا مع ضائقة هذه الفترة بروحٍ طيبةٍ طاهرةٍ نعتز بها ونفتخر بها. ونقول لهؤلاء: بارك الله بكم وبارك الله فيما آتاكم، وما نقص مالٌ من صدقة. ولسوف يعوض الله تبارك وتعالى على المعطي أضعافاً مضاعفة. سيكون في بذل هؤلاء وفي عطائهم وفي إنسانيتهم وتراحمهم مفتاح الفرج عن الأمة كلها بإذن الله فالراحمون يرحمهم الرحمن.


ومن الأمور المطلوبة اليوم: الوعي التام للمكائد وللحروب النفسية التي يشنها العدو وأدواته الرخيصة القذرة التي يستخدمها. إنهم يبثون الشائعات لتحطيم معنوياتكم؛ يبثون الأراجيف. إن اقتصادنا وأمتنا وحياتنا ليست متوقفةً على الدولار، وليست متوقفةً على الموارد الخارجية. نحن أبناءَ هذه الأمة متضامنون مع بعضنا؛ نقتسم الرغيف الواحد ونقتسم الزاد الواحد ونأبى أن يجوع فينا فردٌ، ونأبى أن يذل فينا إنسانٌ عزيزٌ تهان كرامته بالحاجة. لن يكون هناك عوزٌ بإذن الله تعالى، ما دمنا متضامنين.. ما دمنا مؤمنين.. ما دمنا متراحمين.


ثم إننا نتساءل! أين نحن من الثقة بالله تبارك وتعالى؟! أي نحن من الثقة بعطاء الله سبحانه وتعالى؟! نحن في الحقيقة نعيش قوانين ربانية وليس قوانين أمريكية أو أوروبية أو غيرها. نحن نعيش بظل قوانين إلهية ينبغي أن ندركها جيداً قال تعالى: {‏‏وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} وقال سبحانه: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا ۝ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا ۝ وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} ربط ذلك بالعودة الراشدة إلى الله وبالاستغفار.


وعلينا أن نتحسس سبب ما أصابنا فالله تعالى يقول: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} هل نستطيع أن نتبرأ من ذنوبنا؟ لو عدنا إلى أنفسنا وإلى مجتمعنا وواقعنا؛ هل نستطيع أن ننكر مدى تقصيرنا؟ تقصيرنا في بيوتنا.. تقصيرنا في معاملاتنا.. تقصيرنا في أسواقنا.. تقصيرنا في كل شؤوننا.. في تربيتنا لأولادنا.. في تربيتنا لبناتنا.. في رعايتنا لأسرنا. أما ينبغي أن نعود إلى أنفسنا فنحاسبها؟! (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم).


أخيراً، أقول: نحن نتفيأ ظلال بلدٍ مبارك. النبي ﷺ أوصى عند نزول الفتن. قالوا: بم تأمرنا؟ قال: ((عليكم بالشام)). متى قال النبي ﷺ هذا الكلام؟ كانت الشام آنذاك لا تزال محتلةً من قبل الروم، ولكن الله أراه ما وراء سجاف الغيب، وأن عمود الإيمان سيكون هنا في هذا البلد، في هذه البقعة المباركة، في الشام التي قال فيها النبي ﷺ: ((إن الله تكفل لي بالشام وأهله)).


ارفعوا هاماتكم معتزين بكفالة الله. استبشروا بالنصر بكفالة الله. اطمئنوا واعتزوا وتمسكوا بهدي الله لأنكم موضع كفالة المولى جلّ شأنه. لا تضعفنّ أنفسكم ولا تنهارنّ عزيمتكم، فنحن منتصرون بإذن الله، وليس بعد العسر إلا اليسر. إن النصر مع الصبر وإن الفرج مع الكرب وإن مع العسر يسراً.


أما أولئك الذي ابتلينا بهم من أبناء أمتنا، والذين صفقوا للعدو أن يجوّع أبناء أمتنا، أن يحاصر أبناء وطننا؛ وهل في الوطن إلا أبناؤهم؛ إلا أقرباؤهم؛ بيت خاله وبيت عمه وبيت جاره؟! لكنهم إذا قارناهم بالمطعم بن عدي وأبي البختري بن هشام من أهل الشهامة والمروءة من مشركي قريش، هم أقل وأحط من أولئك! بل لا يقارن بينهم! بين إنسانٍ لديه شهامة ومروءة وبين إنسانٍ لديه دناءة التآمر والخيانة! يصفق للعدو أن يحاصر أبناء وطنه؛ أن يجوّع أبناء أمته؛ يصفق للعدو!


اصبروا قليلاً! سوف نرى ذلك فيكم عندما يفرج الله عنا! وإن الفرج لقريب بإذن الله تعالى.


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين.

تحميل



تشغيل

صوتي
مشاهدة