مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 18/10/2019

خطبة الدكتور توفيق البوطي بتاريخ 18 / 10 / 2019

خطبة الجمعة للدكتور محمد توفيق رمضان البوطي


في جامع بني أمية الكبير بدمشق بتاريخ 18 / 10 / 2019


أمّا بعد فيا أيّها المسلمون؛ يقول الله جلّ شأنه في مطلع سورة البقرة: بِسْمِ اللَّـهِ الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ (ألم (1) ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)  إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ ۖ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ... ثم قال: ..وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ...الآيات)


وصف الله تعالى في مطلع سورة البقرة المؤمنين بثلاث آيات، ووصف الكفرة بآيتين، ولكنه عندما وصف المنافقين أفرد لهم اثنتي عشرة آية. لأنهم ظاهرةٌ خطيرةٌ أن يدّعي الإنسان الإسلام ثم يتآمر على الإسلام ويندسّ في صفوف المسلمين ويكيد للمسلمين. أمرٌ خطيرٌ أصاب المجتمع الإسلامي الأوّل، ليكون درساً وعبرةً يحذر منها المسلمون في الأجيال القادمة لخطورتها.


ذلك أن عبد الله بن أبيّ بن سلول كان يحلم أن يصبح ملكاً على يثرب ولما دخل أهل المدينة الإسلام، تبدّدت أحلامه وخسر ما كان يتمنّاه لنفسه، فحقد على الإسلام وحقد على المسلمين، ولكنه تظاهر بالإسلام ليكيد للإسلام من داخل الإسلام. ولقد تصرّف تصرّفاتٍ أوضح كتاب الله تعالى الكثير منها؛ كلّها تصرّفات عدائيّة خيانيّة، فيها من النذالة والحطّة والتآمر ما ينبغي أن يتوقف الإنسان عنده، ليدرك مدى خطر هذه الظاهرة على المجتمع الإسلامي.


فمنذ البداية عندما نقض يهود بني قينقاع العهد مع النبي، من خلال اعتدائهم على امرأةٍ من الأنصار وإساءتهم إليها ثم قتلهم لمن دافع عنها؛ وقف عبد الله بن أبيّ بن سلول وجماعته مع اليهود ضدّ المسلمين من أهل المدينة. تحالف معهم ووقف معهم يناصرهم ويؤيدهم. وفي ذلك قال تعالى: (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَىٰ أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ ۚ فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ). وقف عبد الله بن أبيّ بن سلول مع اليهود ضدّ أمته.. ضدّ أهله.. ضدّ أهل المدينة المنورة.


ثم خذل المسلمين في يوم أحد؛ يوم خرجوا لملاقاة جيش المشركين الذي توجّه إلى المدينة المنورة. واتجه النبي بجيشه إلى أحد لملاقاتهم، فما كان من هذا المجرم الخائن إلا أن انسلّ وانخذل هو وجماعته بثلاثمئةٍ من الجيش؛ أي بثلث الجيش، مما يجعل حالةً من الارتباك تصيب المسلمين. ولكنّ يقينهم بالله كان أقوى من أن تتردّد نفوسهم في متابعة السّير. ولما أصيب المسلمون فيما أصيبوا به في يوم أحد، شمت بهم عبد الله وجماعته من المنافقين، وأظهروا سرورهم بذلك.


ولما نقض العهد يهود بني النضير، وأرادوا قتل النبي، وما هي إلا لحظاتٌ حتى نهض النبي من مقعده عندهم وكان قد جاءهم بأمرٍ يتعلّق بالعهد الذي كان بينه وبينهم، وأبدوا لهم ابتسامة النفاق والغدر؛ بينما كانوا يريدون أن يرموا النبي ومن كان معه من الصحابة بصخرةٍ من سطح المنزل الذي كان إلى جواره. لما فعل اليهود ذلك، نقضوا المعاهدة التي بينهم وبين النبي وعمد النبي إلى طردهم من المدينة، فوقف هذا الخائن المنافق عبد الله بن أبي بن سلول مع اليهود ضدّ المدينة المنورة وأهلها.. ضدّ النبي وأصحابه. إنّها ظاهرةٌ خطيرةٌ أن يكون في المجتمع الإسلامي وبين المسلمين من يتكلم بلغتهم ويصلّي فيما يبدو.. يتظاهر بالصلاة معهم، ثم يتآمر مع العدوّ ضدهم.


وموقفٌ آخر هي محاولة بثّ الفرقة والنّزاع بين المسلمين فيما بينهم، مستغلاً أدنى خلافٍ بسيطٍ يجري فيما بين فردين. فعندما تلاسن غلامٌ من الأنصار مع غلامٍ من المهاجرين، انتهز الفرصة رأس النفاق فقال: (والله ما أرانا نحن وجلابيب قريش إلا كما قالوا (سمن كلبك يأكلك) والله لئن رجعنا المدينة ليخرج الأعز – يعني نفسه - منها الأذل – يعني المسلمين مع النبي). خسئ! فقد كانت المدينة مع النبي وكان هذا المجرم الخائن المنافق غريباً عن جسد المدينة المنورة.


ولقد أغضب هذا الكلام عامّة المسلمين، فما كان من النبي إلا أن أمر الصحابة بالإسراع في السير، حتى لا يتصرّف أحدٌ بردّة فعلٍ تصرّفاً لا يرتضيه النبي عليه الصلاة والسلام تجاه عبد الله بن أبيّ أو أحد أنصاره. ورجع النبي وقد أُجهد الصحابة من السير المتواصل، لكيلا يتمكّنوا أن يلغوا في هذه القصة.


وشاع في المدينة المنورة أن النبي سيقتل عبد الله بن أبي. وهذه ملاحظة دقيقة؛ النبي وديننا لا يأمر بقتل المنافقين؛ نعاملهم بظاهرهم.. نعاملهم فيما يبدوا لنا من شأنهم، وأمرهم إلى الله. لم يسمح النبي  نحوهم بأّي عملٍ يمكن أن يثير حالةً من العداء وسط المدينة المنورة، حتى جاء عبد الله بن عبد الله بن أبيّ؛ ولده، وكان صادق الإسلام إلى النبي يستأذنه في قتل أبيه، فقال له النبي: (لا بل نحسن معاشرته وصحبته ما بقي بيننا). هذا هو موقف النبي والذي كانت ثمرته أن انفض أصحاب عبد الله بن أبيّ بن سلول عنه، وانضمّوا إلى المسلمين؛ لأنهم عرفوا كذب ونفاق وسوء تصرّف عبد الله بن أبي، بينما رأوا سموّ أخلاق النبي تجاه فتنته وإساءاته.


لم يكتفِ بذلك، بل أساء إلى النبي في عرضه، عندما نال من أم المؤمنين سيدتنا عائشة رضي الله تعالى عنها، فاتّهمها بما اتّهمها به، وهذا من أقذر أنواع الإساءات السّاقطة التي تدل على سقوط صاحبها ودناءة أخلاقه وحطّة مستواه. ولقد جاءت براءة سيدتنا عائشة في أعظم شكلٍ من أشكال البراءة في سورة النور.. والقصة معروفة..


أخطر من هذا وذلك؛ أن يتآمر عبد الله بن أبيّ بن سلول مع الرّوم، ما يسمى في هذا العصر بالعمالة الدنيئة؛ أن يصبح عميلاً وينشئ وكراً للروم في المدينة المنورة يكمن فيه أبو عامرٍ الراهب، ليجعل من هذا المكان مرصداً ووكراً للتجسس والتآمر على النبي وأصحابه. والعجيب أنه سمى هذا الوكر مسجداً؛ أي أنه غطّى عداءه للإسلام بثوب الإسلام، وهذا أمرٌ عهدناه في عصرنا، لأنّ ظاهرة النفاق مستمرةٌ لا تنقطع.


ولئن كنا نستعرض هذه الصور كلّها، فإنما نستعرضها لكي نأخذ منها العبرة والعظة، ولتكون أمتنا اليوم على يقظةٍ وانتباهٍ وحذرٍ من أولئك الخونة والمتآمرين على أمتهم. على أبناء بلدهم. على أبناء دينهم. فيتعاملون مع العدو ضدّ وطنهم.. ويتعاملون مع العدو ضدّ أمتهم. يخونون الأمة بأنواع التصرّفات السيئة وبأنواعٍ من الخيانة والتآمر.


هؤلاء نفايات المجتمع.. هؤلاء نبذهم المجتمع.. وكما انتصر النبي على ظاهرة النفاق في المدينة المنورة، سينتصر وطننا وستنتصر أمتنا على ظاهرة النفاق الخبيثة بإذن الله.


هناك أخلاقٌ بينها النبي يتصف بها هذا القطيع من أشباه البشر عندما قال: ((أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ)).


هذه طبيعتهم الغدر والخيانة والكذب وممالأة العدو والتعامل معه ضدّ الوطن، وضدّ الأمة.. ضدّ أبناء هذه الأمة. يتعاملون - ولا يتورّعون عن التعامل - مع إسرائيل ضدّ وطنهم، أو التعامل مع أيّ عدوٍّ خارجيّ ضدّ أمتهم. هؤلاء قد عرّتهم الأحداث وكشفت دناءتهم، وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلبٍ ينقلبون.


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين.

تحميل



تشغيل

صوتي
مشاهدة