مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 16/10/2020

خطبة الدكتور محمد توفيق رمضان البوطي بتاريخ 16 / 10 / 2020

أمّا بعد فيا أيّها المسلمون؛ يقول ربّنا جلّ شأنه في كتابه الكريم: (مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) ويقول جلّ شأنه: (وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ۖ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ).


ويقول النبي ﷺ فيما رواه مسلم: ((لَا يغْرِس مُسلِم غرْساً، وَلاَ يزْرعُ زرْعاً، فيأْكُل مِنْه إِنْسانٌ وَلا دابَّةٌ وَلاَ شَيْءٌ إلاَّ كَانَتْ لَه صَدَقَةً))؛ أي إلا يؤجر على ذلك. ويقول النبي ﷺ لمن سأله: أي الصدقة أعظم أجراً؟ ((قَالَ: أنْ تَصَدَّقَ وأنْت صحيحٌ شَحيحٌ تَخْشى الْفقرَ، وتأْمُلُ الْغنى، وَلاَ تُمْهِلْ حتَّى إِذَا بلَغتِ الْحلُقُومَ قُلت: لفُلانٍ كذا ولفلانٍ كَذَا، وقَدْ كَانَ لفُلان))؛ أي أن على المرء أن ينفق وهو في حال أمله في الحياة ومزيدٍ من الازدهار في مستواه المادي، وليس عندما ييأس من حياته ويقف على شفير النهاية.


أيّها المسلمون؛ تٌبتلى الأمة بظروف؛ ظروف شدةٍ وظروف رخاء. ويكون فيها الفقير الذي تضيق به الحال، ويكون فيها الغني الذي يعيش في رخاء. وقد تضطرب أحوال الغني فيفتقر، وقد تحالف الظروف الإنسان الفقير فيغدو عنياً؛ وفي كل ذلك حكمة.


تُرى عندما تصاب الأمة بجائحةٍ أو بمصيبةٍ على مستوى الأمة، فماذا ينبغي أن يكون موقفها؟ أو ماذا يجب عليها أن تفعل؟


أما الأمر الأول؛ فإن على الأمة إذا ما تعرضت لجائحةٍ أو مصيبةٍ أن تصبر وأن تتجلد، وأن تواجه المصيبة أو الجائحة التي أصيبت بها برجولةٍ وبصبرٍ وبعزيمةٍ؛ فلا ينهار أبناؤها ولا ينهزمون، بل يعيشون على أمل تجاوز تلك المصيبة، ويعملون على اتخاذ الأسباب التي يتجاوزون بها آثار تلك المصيبة. بالصبر والأمل والتعاون والتماسك وبالعزيمة؛ تواجه الأمة ما قد تتعرض لها من مصائب أو جوائح.


الأمر الآخر إذا ما تعرضت الأمة لمصيبةٍ أو جائحةٍ ذات أثر واسع؛ عليها أن تحرص الحرص كله على وحدة كلمتها، وتماسك صفوفها. وألا تسمح للأزمة التي طافت بها أو الجائحة التي أصابتها أن تكون سبباً في تمزيق صفوف أبنائها وخلخلة وحدتها. والعدو المتربص بأمتنا يستغل الظروف القاسية والحرجة لكي يبثّ أسباب الفرقة والخلاف والعداء فيما بين أبناء الأمة، وهذا ملاحظٌ وملموس. ولذلك، فإن عليهم أن يكونوا أشد حرصاً على وحدة الأمة وتماسك هذا المجتمع. وصدق الإمام الشافعي عندما قال:


جَزَى اللهُ عنا الشَّدَائِدَ كُلَّ خَيْرٍ

وَإنْ كانت تُغصّصُنِي بِرِيقِي

وَمَا شُكْرِي لهَا بحمد وَلَكِن

عرفتُ بها عدوّي من صديقي


المصائب تميّز وتمحّص وتدفع بالأمة إلى أن تكون أشدّ تماسكاً ووحدةً وتعاوناً.


الأمر الثالث المترتب على هذا الأمر: هو أن على المجتمع أن يواجه الظروف الصعبة القاسية التي تطوف بأبناء هذه الأمة، من جوائحَ ومن فقرٍ وحربٍ وغير ذلك؛ أن تواجه ذلك بالتكافل والتضامن والتعاون. نعم، بالتكافل والتضامن لأنها ينبغي أن تجسّد معنى حديث المصطفى ﷺ: ((مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ؛ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى)).


إن سعادة الفرد من أبناء الأمة سعادةٌ للأمة، وإن ألم الفرد في المجتمع ألمٌ يصيب المجتمع كله. هذا ما ينبغي أن يكون عليه مجتمعنا، وأن تكون عليه أمتنا. أن نواجه الأزمات والجوائح بالتضامن والتكافل لكي نخفف عمن أصيبوا، لأن هذا الذي أصيب هو جزءٌ من هذا الجسد، فمصابه مصابنا وألمه ألمنا. وما يمكن أن يناله ينال الجميع. هذا ما ينبغي أن يكون عليه المجتمع إزاء الجوائح والمصائب.


تعرضت أمتنا لكثيرٍ من الأزمات، ولا تزال تتعرض، فهي مستهدفة. وهي دائماً تجد نفسها في مواجهة شدائدَ تطوف بها، من أعداءٍ في الداخل ومن أعداءٍ في الخارج. وتستطيع الأمة أن تتجاوز كل تلك المصاعب وكل ذلك الاعتداء والأزمات وما قد تتعرض له من جوائح؛ بما يجب عليها أن تكون عليه من وحدةِ كلمةٍ ومن تضامنٍ وتكافلٍ تتجاوز به آلامها وتتجاوز به الأزمات التي تجتاحها.


والامتحان الأخير الذي تعرض له الوطن بتلك الحرائق التي اجتاحت مساحاتٍ خضراءَ واسعة، أتلفت غاباتٍ ومزارعَ وبيوتاً ومتاجرَ وثروات؛ أتلفت الكثير بلا شك. ولكن مجتمعنا، ولله الحمد، وُجدَ فيه من الغيرة والشهامة والمروءة ما أشعرَ أبناء المنطقة أو المناطق المصابة بأنهم جزءٌ من أولئك المتضامنين المتكافلين معهم، وأنهم سوف يتجاوزون ما قد أصيبوا به. أقول: إن وقوف الكثير من أبناء مجتمعنا مع المصابين يخفف ألم المصيبة، ولو نفسياً، بل ويخففها مادياً بإذن الله تبارك وتعالى.


ستتجاوز أمتنا ما قد أصابها من جائحةٍ خطيرةٍ دمرت وأتلفت، ولكن وجود الأمة المتضامنة المتكافلة المتعاونة سيخفف الكثير من آثار تلك الجائحة. وستتجاوز أمتنا ما قد أصيبت به وستعيد بإذن الله تبارك وتعالى تلك المساحات خضراء أكثر نضارةً وأكثر عطاءً وأكثر جمالاً إن شاء الله تعالى؛ بتعاون أبناء أمتنا؛ بصبرهم.. بثباتهم.. بعزيمتهم.. بالأمل المشرق.. بالأمل نتجاوز الألم الذي أصابنا.. بالأمل الذي نعقده على وحدة كلمتنا وتأييد ربنا تبارك وتعالى للناس. ولقد رأيتم أن الله تعالى أيدهم، عندما استغاثوا وصلوا صلاة الاستسقاء أو الحاجة؛ ما مرّ يومٌ واحدٌ حتى هطلت الأمطار التي أخمدت بقايا الحرائق التي كانت تتأجج هناك. هذا مظهرٌ من مظاهر التأييد الإلهي، وكلما كنا أكثر التجاءً إلى الله وصدقاً مع بعضنا وأملاً وطيداً برعاية الله وتعاونا مع بعضنا وتضامناً، سنتجاوز الكثير والكثير من الأزمات التي تطوف بنا إن شاء الله تعالى.


أسأل الله تعالى أن يجمع كلمتنا على الحق والتقوى وأسأله سبحانه وتعالى أن يفرج عنا ما قد ألم بنا، وأن نتجاوز المصيبة التي طافت بأمتنا؛ سواءٌ كانت مصيبة العدوان الغاشم الذي نتعرض له في كل يوم، أو كانت مصيبة الجوائح التي أصبنا بها؛ سنتجاوزها بالأمل ولتشرق شمس الفرج إن شاء الله تعالى.


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين.

تحميل



تشغيل

مشاهدة
صوتي