مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 15/05/2020

خطبة الدكتور توفيق البوطي بتاريخ 15 / 5 / 2020

خطبة الجمعة للدكتور محمد توفيق رمضان البوطي


في جامع بني أمية الكبير بدمشق بتاريخ 15 /  5 / 2020


أمّا بعد فيا أيّها المسلمون، يقول ربنا جلّ شأنه في كتابه الكريم: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا ۝ لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ}. ويقول سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ۝ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ۝ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ۝ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ۝ سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}. وروى البخاري عن النبي ﷺ: ((من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ومن صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه))، وروى البخاري أيضاً عن النبي ﷺ أنه قال: ((تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْوِتْرِ مِنْ الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ)) أي الحادي والعشرين والثالث والعشرين وهكذا. وفي حديثٍ آخر رواه البخاري: ((الْتَمِسوها في السَّبع الأواخِرِ من شهر رمضان)).


أيها المسلمون، في هذا العشر، وفي مثل هذا اليوم حدث أمرٌ عظيمٌ في تاريخ هذه الأمة؛ حدث فتح مكة بعد سبع سنواتٍ من حربٍ مستمرةٍ بين المسلمين والمشركين. لقد هاجر النبي ﷺ من مكة بعد معاناةٍ وقهرٍ واضطهادٍ مات فيه من مات وعمي فيه من عمي ونالهم من الأذى ما نالهم. حتى اضطر النبي ﷺ وأصحابه للخروج إلى المدينة المنورة. خرج وهو يقول مخاطباً مكة المكرمة: ((الله يعلم أنك أحب بلاد الله إلي ولولا أن قومك أخرجوني ما خرجت)).


لكن عدوان أهل مكة لم ينته؛ فقد استمروا في الكيد والعدوان، ومحاولة وأد الدعوة الإسلامية في مهدها. ولكن بعد مراوضاتٍ وكثيرٍ من الاشتباكات والمعارك، أدركت مكة أن النبي ﷺ قد أيده الله بنصره، فلا مجال لقهره، ولا مجال لهزيمته وأنهم هم المنهزمون. فلجؤوا إلى طلب الصلح مع النبي ﷺ وعقدت معه اتفاقية صلحٍ لمدة عشر سنوات، إلا أن النفوس المريضة في قريش أبت إلا أن تنقض العهد بعد أقل من سنتين. عندها وجد النبي ﷺ أن ينهي الأمر ويحسمه، فمضى إلى مكة فاتحاً، لكن ليس بقصد الثأر ولا بقصد الانتقام، ولا بقصد سفك الدماء؛ وإنما بقصد إيقاظ تلك العقول الغافلة السادرة في غيها، وإنقاذها مما هي فيه من الضلال، وإحياء تلك العقول بمنهج الهداية والتوحيد. ولذلك عندما فتح مكة نادى أبناء الشرك فيها، أولئك الذين طالما اضطهدوه قبل الهجرة، وحاربوه بعد الهجرة، ناداهم وقال لهم: "ماذا تظنون أني فاعلٌ بكم؟" قالوا: "أخٌ كريم وابن أخٍ كريم"، فما كان من النبي ﷺ إلا أن قال: "اذهبوا فأنتم الطلقاء".


وبهذا انتهت سبع سنواتٍ من المعاناة، وانتهت أسطورة الشرك وخزعبلاتها، وانتهت حالة الحقد والضغينة فيما بين الناس، واتحدت جزيرة العرب تحت راية الإيمان والهدى، إلا من بعض المناطق القليلة التي خرج فيها بعض المتنبئين.


هذا الأمر الأول، والذي يستوقفني أمام هذا الموقف الأول: بعد سبع سنواتٍ عاد النبي ﷺ واستعاد مكة، فمتى يمكن أن تستعاد المناطق المغتصبة من بلادنا؟ والتي حل فيها الطغاة المستكبرون والمجرمون الأوغاد يغتصبونها ويضهدون أهلها؛ متى ستعود إلى رحاب الحق والهدى والأمن والسلام؟ لقد آن الأوان أن تطهر تلك البلاد من المستكبرين والطغاة، ومن أذيالهم من العملاء والمخذلين والمراوغين الذين يحاولون التنكر للحقوق إرضاءً لأسيادهم الذي قد ارتضوا أن يكونوا عبيداً لهم.


وبعد أيها المسلمون، نحن أمام العشر الأخير من شهر رمضان الذي كان فيه النبي ﷺ إذا جاء هذا العشر شد المئزر وأحيا ليله وأيقظ أهله، وقام في تلك الليالي متهجداً متعبداً لله سبحانه وتعالى بهمةٍ ونشاطٍ، حتى نهاية هذا العشر. نعم، هذا العشر يتضمن ليلةً تختزل ثمانين عاماً في ليلة! عبادة ثمانين عاماً تستطيع أن تختزلها في ليلةٍ واحدةٍ! هي ليلة القدر. ألم يقل ربنا تبارك وتعالى: {ليْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ}؟ بليلةٍ واحدةٍ تستطيع أن تحقق فضل وثواب عبادة ثمانين عاماً!


فهلا شمرنا عن ساعد الجد والنشاط وبدأنا نحيي ليال هذا العشر بالعبادة والطاعة والالتجاء إلى الله U والتضرع إليه أن يغفر لنا ما مضى من عمرنا وأن يعصمنا فيما بقي في عمرنا وأن يفرج عنا ما أهمنا وأغمنا وأن يكشف عنا من البلاء والوباء والغلاء ما لا يكشفه عنا إلا هو سبحانه وتعالى.  إليه الملتجأ وبه الاستعانة وعليه الاتكال وبه الاستغاثة. إليه التجأنا وبه اعتصمنا وعليه توكلنا وإليه أنبنا.


والعبادة ليست مجرد قيامٍ وصلاةٍ وذكرٍ ودعاء. العبادة تشمل صلة الرحم وحسن الجوار والبذل والعطاء. وما أجمل دمشق ونحن نرى مهرجان المتنافسين في البذل والعطاء على الفقراء والمساكين هنا وهناك ممن جرحت قلوبهم وحرمتهم الخير السنواتُ العجاف العدوانية التي ابتلي بها هذا البلد. هؤلاء تمسح عليهم أيدٍ حنونةٍ رحيمةٍ تبذل من العطاء ما تبذل، لكي تمسح عنهم ألم الجراح وتخفف عنهم شدة المصاب. أسأل الله تعالى أن يثيبهم. وقد قال ﷺ: ()دَاوُوا مَرْضَاكُمْ بالصَّدَقة وحصنوا أموالكم بالزكاة)).


أسأل الله سبحانه وتعالى أن يغفر لنا وأن يوفقنا لأن نكون من المتنافسين في طاعته المتسابقين إلى عبادته بالقربات بشتى أنواعها.


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين.

تحميل



تشغيل

صوتي