مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 15/11/2019

خطبة الدكتور توفيق البوطي بتاريخ 15 / 11 / 2019

خطبة الجمعة للدكتور محمد توفيق رمضان البوطي


في جامع بني أمية الكبير بدمشق بتاريخ 15 / 11 / 2019


أمّا بعد فيا أيّها المسلمون؛ يقول ربنا جلّ شأنه في كتابه الكريم: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) وقال سبحانه: (ولَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا). وروى البخاري عن النبي ﷺ أنه قال: ((لا يُؤْمِنُ أحدُكم حتى أكونَ أحبَّ إليه من ولدِهِ، ووالدِهِ، والناسِ أجمعينَ)). وروى البخاري أيضاً عن النبي ﷺ أنه قال: ((ثلاثٌ من كنّ فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار)).


أيها المسلمون؛ يحتفل المسلمون في ذكرى مولد النبي ﷺ ويقيمون مظاهر الحفاوة والابتهاج في البيوت والأسواق والمنتديات وفي المساجد تعبيراً عن محبة النبي ﷺ. وتتضمن هذه المباهج والاحتفالات مظاهر إكرامٍ ومحبةٍ من سماعٍ لأناشيدَ عذبة في مدح النبي ﷺ وذكر شمائله ومآثره عليه الصلاة والسلام، بالإضافة إلى مظاهر أخرى تعبر عن محبة الناس للنبي عليه الصلاة والسلام.


وهذا أمرٌ مشروعٌ بلا شكّ، فلقد ذكرنا أن النبي ﷺ أولى المناسبات الزمانية أهميتها. وذكرنا مثالين على ذلك: اهتمامه بذكرى مولده على مستوى الأسبوع، فكان يصوم الاثنين ويقول: ((هذا يومٌ فيه ولدت)). وعندما رأى اليهود يصومون عاشوراء قال: ((نحن أولى بموسى منهم)) وصام عاشوراء لأنه يومٌ نجّى الله فيه موسى عليه الصلاة والسلام من فرعون وصامه وأمر بصيامه. هذا دليلٌ على أهمية المناسبات الزمانية في ديننا وفي سنة نبينا ﷺ.


إلا أننا نتساءل: هل تكفي هذه المظاهر من الابتهاج والحفاوة لتحقيق الهدف المقصود منها وهو محبة النبي ﷺ؟! ترى هل أثمرت هذه الاحتفالات وهذه المباهج دراسة سيرة النبي ﷺ وشمائله وسنته؟ هل دفعت بنا إلى التشبّث بهديه الشّريف والتمسّك بأوامره واجتناب نواهيه؟ إذا تحققت هذه المعاني فلقد حقّقت احتفالاتنا مقاصدها وحقّقت أهدافها، وتحولت من مباهجَ إلى قربةٍ نتقرب بها إلى الله جلّ شأنه. أما إذا لم يتحقق هذا الهدف، فإنها محبّةٌ عقيمةٌ لا تثمر ولا جدوى لها، بل هي مجرّد ادعاءٍ لا تتجاوز كونها كذلك.


أيها المسلمون؛ المحبّة عاطفةٌ جيّاشةٌ تتأجّج بها القلوب، ولكنّ هذه العاطفة الجيّاشة التي تدفع بنا للتشوّق إلى رؤية من نحب وزيارة من نحب، وإلى تعلق القلوب بهذا المحبوب، ترى هل يكفي هذا الشعور؟! أم إن المحبة الحقيقية تدفع بنا إلى الالتزام بأوامره وإلى اجتناب نواهيه وإلى التمسّك بسنته وإلى الاعتزاز بما أمرنا به، بهديه.. بدينه.. بالرسالة التي بعث بها ﷺ.


إن دلائل محبة النبي ﷺ تتمثل في الشّغف بأن نصغي إلى سيرته، وأن نصغي إلى صفاته وشمائله، وأن نعير السمع باهتمامٍ شديدٍ إلى أحاديثه، التي فيها أوامر يجب أن نتبعها، ونواهٍ يجب أن نجتنبها، وتعاليم إذا ما تمسّكنا بها سعدنا في الدنيا ونجونا في الآخرة، وكنا إن شاء الله تعالى مشمولين برحمة الله سبحانه وتعالى.


إن من دلائل محبته ﷺ الاعتزاز بسنته والتمسّك بهديه، والالتجاء إلى تعاليمه لتكون هي الحصن الذي نتحصن به والمنهج الذي نتمسّك به والرسالة التي ندعو إليها. تُرى هل تحققت هذه المعاني؟!


إن من دلائل محبته ﷺ كثرة الصّلاة عليه؛ أن نكثر من الصلاة عليه شغفاً به وحباً له ورغبةً في أن يصلّي الله علينا، فيرحمنا ويغدق علينا من إحسانه، أما قال النبي ﷺ: (من صلى علي مرةً صلى الله عليه عشراً، ومن صلى علي عشراً صلى الله عليه مائة) وهكذا يضاعف الله تعالى الأجر لمن صلى عليه ﷺ صبابةً وحباً به ﷺ.


كثرة ذكر النبي ﷺ وكثرة الصلاة عليه ﷺ تدفع إلى تعلّق القلب به والحرص على اتباع سنته والتزام أوامره واجتناب نواهيه. نحن اليوم بحاجةٍ إلى أن نجعل من هدي رسول الله ﷺ منهاجاً يعصمنا من الانحرافات والضّياع الذي تعاني منه أمتنا اليوم. نحن بحاجة إلى أن نجد في منهج رسول الله وهديه وسنته سبيلاً يفضي بنا إلى سعادةٍ في الدنيا وعزّةٍ في الدنيا، وسعادةٍ وعزةٍّ في الآخرة إن شاء الله تعالى.


إذا تحققّت هذه المعاني فينا، فإنّ النبي ﷺ سيبادلنا الحبّ بالحبّ، بل بحبٍّ أعظمٍ وعطفٍ أكبرٍ وسيكرمنا الله يوم القيامة بشفاعته، يوم نكون في أشدّ الحاجة إلى شفاعته، يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون، ولكن تنفعنا شفاعته ﷺ: (إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) سليمٍ من الأغيار، متعلقٍ بهدي المصطفى ﷺ محبٍ لله ورسوله ﷺ.


أيها المسلمون؛ كيف كان الصحابة الكرام يترجمون محبتهم للنبي ﷺ؟! سلوا الصحابة الكرام عن ذلك. عبد الله بن عباس كان فتىً صغيراً، لكنّه كان عاقلاً، وكان يحرص في ليلة نوم النبي ﷺ عند خالته أن ينام عنده، حتى يرى أحوال النبي ﷺ في ليله فيتبعه ويقتفي أثره. فكان إذا قام النبي ﷺ ليتوضأ قام فتوضأ، وإذا قام يصلي وصلاة النبي ﷺ في الليل طويلة تجشم صعوبة ذلك، ووقف خلف النبي ﷺ يصلّي الساعات الطويلة، يتحمّل ذلك رغبةً في أن يبقى مع النبي ﷺ غداً في الآخرة.


عبد الله بن عمر كان شديد الاتباع للنبي ﷺ، حتى في مأكله ومشربه وملبسه وفي هيأته. هكذا كان الصحابة.. رجلٌ من أصحاب النبي ﷺ فيما روت السيدة عائشة رضي الله عنها أتى النبي ﷺ وقال يا رسول الله: (والله إني لأحبك أكثر من نفسي، والله إني لأحبك يا رسول الله أكثر من مالي وأهلي وولدي، وإني لأذكرك وأنا في البيت فما أطيق عنك صبراً حتى آتي إليك فأنظر إليك، ثم إني ذكرت يا رسول الله أنني سأموت وأنت كذلك، وغداً ستدخل الجنة وترفع مع النبيين أما أنا فسأكون مع عامة الخلق فلا أراك) أي جنة هذه التي لا أراك فيها وأنا هنا لا أطيق عنك صبراً؟! فماذا قال النبي ﷺ! لم يجبه. جاء الجواب من رب العزة جلّ شأنه، جاء الوحي إلى رسول الله ﷺ بقوله سبحانه:(وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا) طاعة الله ورسوله سبيل سعادتنا غداً في الآخرة، وسبيل أن نكون مع رسول الله ﷺ غداً في الآخرة.


نعم، هذه أحوال محبة الصحابة للنبي ﷺ. لماذا كانت كل هذه المحبة؟! كانت أخلاقه ﷺ كما وصفته السيدة عائشة: (كان خلقه القرآن). كان أحسن الناس خَلقاً وأحسن الناس خُلُقاً، ألين الناس يداً، أطيب الناس رائحةً.. أحسن الناس خَلقاً وخُلُقاً ومعاملةً.. أكثر الناس تواضعاً.. كان كثير التواضع، يجلس مع الفقير والمسكين، ويلبي دعوة الفقير والغني، لا يأنف. كانت الدنيا دبر أذنه، ليست موضع اهتمامه ولا اكتراثه. تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: (إن كان ليمر علينا الشهر والشهران لا يوقد في بيت آل محمدٍ نارٌ، كان طعامنا الأسودان؛ التمر والماء).


كان فراشه من أدم؛ من جلدٍ محشوّ ليفاً. أي أنه كان شظفاً، هل كان ذلك عن فاقة؟ لا، النبي ﷺ لم يعانِ الفاقة، إنما كانت الدنيا بالنسبة له أمراً ثانوياً وبعيداً عن اهتمامه. لم يكن يكترث لها وكان يقول: (مالي وللدنيا.. ما أنا فيها إلا كراكبٍ -أي مسافر -استظل بظلّ شجرةٍ ثم مضى وتركها) وهذه حقيقتنا جميعاً، نحن هنا في ظلّ شجرةٍ لا نلبث أن نتركها ونمضي إلى الله سبحانه وتعالى، فما لنا وللدنيا، فلماذا تأسرنا الدنيا بمحبتها؟ النبي ﷺ كان ألطف الناس عُشرةً، كان أكثر الناس تواضعاً، كان أكثر الناس عطفاً على المساكين. حتى المرأة المسكينة الفقيرة.. كان وفياً لتلك المرأة المسنة العجوز التي كانت من صويحبات سيدتنا خديجة رضي الله تعالى عنها، فكان يصلها وكان يعطف عليها وفاءً لزوجته العظيمة أم المؤمنين سيدتنا خديجة رضي الله تعالى عنها.


يطول الحديث لو أننا تكلّمنا عن شمائل النبي ﷺ، ويجدر بنا أن نطلع عليها. يقول سيدنا أنس رضي الله عنه: (ما لمست حريراً ولا ديباجاً ألين من كفّ رسول الله ﷺ وما شممت عطراً أطيب من رائحة النبي ﷺ ولقد خدمت رسول الله عشر سنين، فما قال لي عن شيءٍ فعلته لم فعلته، ولا عن شيء لم أفعله لو أنك فعلته، إنما كان يقول: قضاء الله خير) هذا خلق رسول الله ﷺ.. لهذا أحب الناس النبي ﷺ ولأنه حريصٌ علينا كما قال تعالى: (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ).


أيها المسلمون؛ لقد بادَرَنا رسول الله وبدأنا بالمحبة قبل أن نُخلق، اشتاق إلينا قبل أن نوجد. فلقد أتى النبي ﷺ البقيع كما يروي مسلم في أُوخيرات أيام حياته وسلّمَ على أهل البقيع وقال: (السلام عليكم دار قوم مؤمنين.. اللهم ارحم أهل بقيعٍ الغرقد.. ثم قال: وددت أني رأيت إخواننا، قالوا: يا رسول الله، ألسنا إخوانك؟ قال: أنتم أصحابي. إخواني الذين يؤمنون بي ولم يروني - أنتم يا أيها المسلمون أنتم المعنيون بشوق رسول الله ﷺ، اشتقاق إليكم قبل أن تخلقوا - ثم قال: وإني فرطهم على الحوض - أي ينتظرنا على الحوض – فقيل: يا رسول الله كيف تعرفهم ولم ترهم؟ قال: أرأيت لو أن رجلاً له خيلٌ غرٌّ محجلةٌ – بيضاء الجبهة والقوائم - بين ظهري خيلٍ دهمٍ بهمٍ، ألا يعرف خيله؟! قالوا: بلى يا رسول الله. قال: فإنهم يأتون غرّاً محجّلين من الوضوء وأنا فرطهم على الحوض)) أبشروا يا أيها المسلمون المتوضئون المقيمون للصلاة المواظبون على حب النبي ﷺ باتباعه يعرفكم ثم قال: (ألا يذادنّ رجالٌ عن حوضي كما يذاد البعير الضالّ.. أناديهم ألا هلمّ ألا هلمّ ألا هلمّ فيقال: إنهم قد بدلوا بعدك).


الذين انحرفوا عن النهج وهجروا هدي رسول الله واستغنوا عن سنة المصطفى أولئك غيّروا، ومن غيّر لن يتعرف عليه النبي ﷺ.


أسأل الله أن يجعلنا ممن ثبت على النهج وسلك طريق الهدى.. أسأله تعالى أن يرزقنا صدق المحبة وأن يجمع قلوبنا على ذلك.


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين.

تحميل



تشغيل

صوتي
مشاهدة