مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 14/06/2019

خطبة الدكتور توفيق البوطي بتاريخ 14 / 6 / 2019

خطبة الجمعة للدكتور محمد توفيق رمضان البوطي


في جامع بني أمية الكبير بدمشق بتاريخ 14 / 6 / 2019


أمّا بعد فأيّها المسلمون؛ يقول ربّنا جلّ شأنه في كتابه الكريم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) ويقول سبحانه: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى) وروى البخاري عن النبي أنه قال: (كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤول عَنْ رَعِيَّتِهِ، الإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْؤولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالْخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ وَمَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، ألا كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤول عَنْ رَعِيَّتِهِ).


تحدّثنا عن إعداد الأمّة يبدأ بالفرد، لينتقل إلى بناء الأسرة بناءً متماسكاً متيناً، وصولاً إلى بناء المجتمع، إلى تكوين الأمّة بأسرها. وكما أنّ البناء يبدأ بالفرد فوقاية المجتمع ومعالجة ما يمكن أن يتعرّض له من آفاتٍ تبدأ أين بالفرد، فوقاية الفرد أمرٌ لا بدّ منه لحماية المجتمع وصيانته ودرء أيّ عاملٍ من عوامل الإفساد أن يسري إليه. إنّ فساد الفرد يسري إلى الأمة بأسرها، وصلاح الفرد يؤدّي إلى صلاح المجتمع. ولذلك كان لا بدّ أن نُعنى بإعداد الفرد الصّالح كما ذكرنا معرفةً وسلوكاً وأخلاقاً وفي علاقاته مع محيطه؛ مع أسرته ومع أبويه ومع المجتمع، وصولاً - أو بالأحرى - بدءاً من حسن العلاقة بينه وبين ربّه، ليكون ذلك سبباً في صلاح شأنه وحسن علاقته مع أبويه وأسرته ثمّ مع مجتمعه. ومن ثمّ، يتكوّن ذلك المجتمع المتحابب المتعاون المتكافل.


ووقاية الفرد أمرٌ لا بدّ منه، وتبدأ ووقاية الفرد بهذا الإعداد الذي أشرنا إليه وبحمايته من آفاتٍ خطيرة ما ينبغي أن نغفل عنها، بدءاً من صديق السوء، فرفقاء السّوء من أخطر ما يمكن أن يتعرّض له الإنسان عامّةً والناشئة خاصّة، لأنّ فساد المحيط أو البيئة أو الرفقاء يؤدّي إلى سريان هذا الفساد إلى الفرد نفسه، ومن ثمّ، فإنّ هذا الفساد يتفشّى وينتشر. وهذا يوجب على الأبوين وعلينا جميعاً أن نقي أنفسنا وأولادنا من رفقة السّوء وصاحب السوء، الذي يسري فساده إلى فساد صاحبه. فالفساد إن كان فكراً أو سلوكاً، أو كان في أيّ صورةٍ من صوره، من شأنه أن يؤدّي إلى فسادٍ فيمن يصاحبهم ذلك الإنسان. ولقد نبّه كتاب الله عزّ وجلّ إلى هذا المعنى في مواطن كثيرةٍ من كتابه. وقد يطول بنا الحديث إذا استفضنا في ذلك، فمسألة حسن اختيار الرفقة لأنفسنا وأبناءنا وبناتنا أمرٌ ينبغي أن يكون في عهدتنا ومن أهم أولويّات أمورنا.


الأمر الآخر هو وسائل الإعلام. وسائل الإعلام أمرٌ مهمّ وضروريّ لأنّه وسيلة التواصل بين الشّعوب، ووسيلة معرفة الإنسان لما يجري في العالم كلّه من حوله. إلاّ أنّ وسائل الإعلام لها جانبٌ سلبيّ، لأنّها فتحت الآفاق كلّها أمام الإنسان لكي يطّلع على مفاسد الأرض كلّها. وأعدائنا يمنهجون وسائل إعلامهم لتضخّ إلينا أسوأ ما في مجتماتهم، ليسري ذلك السّوء إلى مجتمعاتنا وأبناءنا وأسرنا، مما يؤدّي إلى إضعاف وتوهين البناء الاجتماعيّ والأخلاق الاجتماعيّة في مجتماعنا وفي أسرنا وفي بيوتنا. إنّ وسائل الإعلام - وللأسف مع أهمّيتها وضرورتها - غدت وسيلةً لتناقل ثقافة الفساد الذي يجري في مجتمعهم، ويؤدّي إلى مفاسد كثيرةً في مجتمعهم، يئنّون من وطأتها ويشكون من آثاراها. هم يرون أنّ إهلاك مجتمعاتنا وفساد مجتمعاتنا منوطٌ بنقل ذلك الفساد إلى مجتمعاتنا نحن، لكي نصاب بمثل ما أصيبوا به من انهيارٍ في البناء الاجتماعيّ وتفسّخٍ في الأسرة في مجتمعاتهم.


نعم أيّها المسلمون؛ إنّ المجال الفنّيّ عندهم غدا كما تعرفون، توظيفٌ هذا الفساد لنشر العنف والجريمة والتحلّل الأخلاقيّ، وممّا يؤسف له أنّ كثيراً من القائمين على مجال الفنّ في المجتمعات العربية والإسلامية غدوا صورةً مطابقةً لما ينشره الإعلام الغربي في وسائله الإعلامية وفي وسائطه التي تنشر الفساد والتفسّخ الأخلاقي.


إن وظيفة الفنّ في مجتعاتنا وفي المجتمعات الإسلاميّة يجب أن تكون وظيفةٌ بنّاءةً ترسي دعائم الأخلاق والتّماسك الاجتماعيّ والقيم الفاضلة التي تنشئ المواطن الصّالح والأخلاقي والمخلص لوطنه وأسرته ومجتمعه؛ لا أن تكون سبباً في هدم هذه القيم وتفسّخ ذلك المجتمع. إنّ مسؤوليّة ذلك تقع على القائمين على المجال الفنّيّ، وعلى القائمين أيضاً على المجال الإعلاميّ في مجتمعاتنا العربيّة والإسلاميّة.


المشكلة الثّالثة التي نخشى منها والتي يجب أن نتعامل معها بحذرٍ هي وسائل التواصل الاجتماعيّ، التي يفتقر مجتمعنا - للأسف - إلى ترشيد التّعامل معها، بينما غدت اليوم وسيلةً خطرةً يستخدمها البعض لغير ما ينبغي أن تكون عليه. هي عالمٌ مفتوحٌ يجلس المرء وراء الشّاشة، فيتكلم بما يشاء ويبثّ ما في نفسه من مفاسد لتنتشر عبر الأثير هنا وهناك، والتّعامل معها ينبغي أن يكون بغاية الحذر، لأنّ ثقافة وسائل التواصل - ما لم تكن مرشّدةً ومنبضطةً في طريقة التّعامل - فإنّها وسيلةٌ خطرةٌ عانينا منها ولقينا منها الكثير من أسباب الفساد والضّلال وإشاعة الفوضى في مجتمعاتنا، ولعلّكم تذكرون أنّ من أهمّ عوامل الفتنة التي انتشرت في بلادنا كانت وسائل التواصل.


نحن بحاجةٍ إلى أن يكون لدينا من الوعي بالتعامل مع وسائل الإعلام ووسائل التواصل بما يقينا من مفاسدها ويجلب لنا إيجابياتها، ويمكن أن تكون منبراً لنشر الأخلاق والقيم والأخلاق الإيجابيّة البنّاءة إذا ما كنّا على درجةٍ من الوعي والحذر والرّشد في طريقة التعامل معها، سواءٌ بالنّسبة لأنفسنا، والأخطر بالنسبة لأبناءنا وبناتنا. إنّ الأبوين مسؤولان مسؤوليّةً مباشرةً، والمجتمع أيضاً - بالدرجة التالية - عن حسن إعداد بناتنا وأبنائنا وهما القدوة، فإنّ أحسنا كانا قدوةً في الإحسان، وإن أساءا سرت إسائتهما إلى الأبناء والبنات.


إنّ لغة التّفاهم بين الأبوين ستسري إلى الأبناء، فإذا كانت لغة راقيةٌ مهذّبةً لطيفةً سرت تلك اللّغة إلى طريقة تعامل الأبناء والبنات مع بعضهم، وإلى طريقة تعامل الأبناء والبنات مع بيئتهم ومجتمعاتهم. لذلك ينبغي أن يكون الأبوان على درجةٍ عاليةٍ من الوعي في كيفيّة تعاملهما مع بعضهما وفي سلوكهما، لأنّ هذا السلوك سيسري  إلى الأبناء والبنات ويكون له أثره في تربيتهم وفي أخلاقهم وسلوكهم.


الأمر الأخير الذي ينبغي أن نلفت النظر إليه هو أنّ هذه الخطوة في إعداد الفرد ووقايته هي الخطوة الأولى لإعداد المجتمع. ولقد عدّ الإسلام المجتمعَ أسرةً واحدةً، وجعل العلاقة التي تربط بين أبناءه علاقةً تستظلّ بظلّ الإيمان هي علاقة أخوة. ألم يقل ربّنا تبارك وتعالى: }إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ{! العلاقة فيما بين أبناء المجتمع هي علاقة الأسرة فيما بين أفرادها. الأسرة الصغيرة تتمثّل في الأبوين والأولاد، والأسرة الكبيرة هي المجتمع الإسلاميّ الذي يبغني أن يكون قائماً على التحابب والتوادد والتّكافل والتّعاون.


ولذلك كان الإسلام حريصاً على أن تكون هذه العلاقة مرسّخة وحرص على وقايتها مما قد يتهدّدها. ألم يقل ربّنا تبارك وتعالى بعد قوله: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ) قال: (فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ)! ثمّ نهانا عن كلّ ما يمكن أن يؤدّي إلى توهين هذه العلاقة وإضعافها، فحرّم السّخرية من بعضنا، والغمز واللّمز والطّعن في بعضنا، ونهانا عن الغيبة والشتم وعن كلّ ما يمكن أن يؤدّي إلى سوء العلاقة فيما بين أبناء هذا المجتمع.


نعم، إنّ هذه الأخوة التي عقد رباطها ربّ العزّة جلّ شأنه في كتابه جعلها مسؤوليةً في أعناقنا، في إصلاحها ووقايتها والمحافظة على متانتها. أمرنا بأن نكون حريصين على هذه العلاقة، وأن نحميها من كلّ ما يمكن أن يؤدّي إلى بثّ مشاعر الكراهية أو الحقد،ّ أو يوهن تلك العلاقة فيما بين أبناء الأسرة الاجتماعيّة كلّها.


نحن مسؤولون عن هذا كلّه لكي نصل بعد ذلك إلى بناء هذه الأمّة ووقايتها مما قد يهدّدها لعلّ ذلك يتيسّر لنا بعونه تعالى.


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين.

تحميل



تشغيل

صوتي
مشاهدة