مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 14/02/2020

خطبة الدكتور توفيق البوطي بتاريخ 14 / 2 / 2020

خطبة الجمعة للدكتور محمد توفيق رمضان البوطي


في جامع بني أمية الكبير بدمشق بتاريخ 14 /  2/ 2020


أمّا بعد فيا أيّها المسلمون؛ يقول ربنا جلّ شأنه في كتابه الكريم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)، ويقول سبحانه: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى). ويقول سبحانه حكايةً عن سيدنا لقمان إذ أوصى ابنه فقال: (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا أَصَابَكَ ۖ إِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ۝ وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ۝ وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ ۚ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ). ويقول النبي ﷺ: ))كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤول عَنْ رَعِيَّتِهِ، الإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْؤولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالْخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ ومَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، َكُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ((.


أيها المسلمون؛ إن الجيل الذي ينشأ الآن ويدرج بين أيدينا أمانةٌ في أعناقنا ونحن مسؤولون عن حسن رعايته وحسن إعداده، ليكون إنساناً سوياً ومواطناً صالحاً وأداة بناءٍ وإصلاحٍ في المجتمع. والأسرة هي المرتكز الأول لإعداد الإنسان الصالح والمواطن البنّاء في هذه الأمة.


والمسألة تبدأ من حين بناء الأسرة. بناء الأسرة يقوم على حسن اختيار كل من الزوجين. وجه النبي e الرجل؛ فقال للرجل: ((..عليك بذات الدين تربت يداك)) لأنها ستكون أم أطفاله. وقال لولي المرأة: (إذا أتاكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض). أمر بحسن الاختيار ليكون هناك انسجامٌ وحسن تعاملٍ على أسسٍ صحيحةٍ وسليمةٍ فيما بين الزوجين.


ثم بعد ذلك؛ إذا ما قدر الله لهذين الزوجين أن يرزقا الولد، فإن عليهما أن يشكرا الله على هذه النعمة، وشكر الله على هذه النعمة ليس بكلمةٍ ميتةٍ على الشفاه، وإنما بحسن رعاية هذه النعمة وحسن تربيتها وتوجيهها الوجهة الصالحة. بأن يكون هذان الأبوان القدوة الصالحة لهؤلاء الأولاد؛ أن يكونا في معاملتهما فيما بينهما على أحسن وجهٍ يمكن أن يتلقاه الولد فيجعله أساساً في سلوكه هو عندما يتعامل مع الآخرين.


إنهما المثل الأعلى بالنسبة للأولاد، فإذا صدقا صدق الولد، وإذا استقاما استقام الولد. وإذا كان كلامهما كلاماً سامياً طاهراً راقياً، تلقى الطفل تلك الكلمات من قاموس الأسرة فكانت هي اللغة التي يتحدث بها إلى الآخرين. هذه المسؤولية مسؤوليةٌ عظيمةٌ على الأبوين.


ثم إذا درج هذا الطفل فصار بحاجةٍ إلى التوجيه والتربية، فإن على الأبوين أن يكونا حكيمين في توجيه هذا الطفل الوجهة الصالحة.. الوجهة المستقيمة.. الوجهة الأخلاقية السامية.. وذلك بأن يكونا - مرةً أخرى - القدوة الحسنة لهم. وأن لا يستخدما شدةً تحطم شخصية الطفل، ولا ليناً يميع شخصية هذا الطفل. بل عليهما أن يكونا حكيمين فيوجها هذا الطفل الوجهة الصالحة على أحسن أسلوبٍ يمكن أن يرقى به إلى الأخلاق الكريمة، والتعامل السامي الذي يرقى بهذا الطفل ليكون رجلاً مستقيماً غداً، بنّاءً في هذا المجتمع؛ يتحمل مسؤولية الخير والعمل والإصلاح في مجتمعه.


إن طبيعة العلاقة فيما بين الزوجين تنعكس على الأولاد، فإذا كان التعامل فيما بينهما تعاملاً أخلاقياً سامياً، نشأ هؤلاء الأولاد في هذه الأسرة نشأةً سويةً سامية. وإن كانا على غير ذلك فإن النتائج ستنعكس على هذا الطفل سلبياً، لأن هذه هي الأساليب التي انعكست على شخصيته فأثرت في بناء تصرفاته وعلاقاته.


على الأبوين حث الأبناء على الصلاة كما أمر الله U على لسان سيدنا لقمان: (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ) وكما قال ﷺ: ((مروا أولادكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر)). والضرب ليس وسيلةً، ولكن مدلول الكلمة أن يكون هناك حزمٌ وجديةٌ في التوجيه، وليس من الحكمة أن نستعمل الضرب في توجيه أبنائنا وبناتنا. فالضرب وسيلةٌ فاشلةٌ إذا ما استخدمت مباشرةً، إنما المراد بالضرب هنا الحزم في التوجيه والجدية في التربية والرعاية.


على الأبوين مسؤولياتٌ أخرى.. الأب والأم يرعيان هذه الأسرة؛ يرعيان بعضهما ويرعيان الأطفال الرعاية الصحية والرعاية التغذوية والرعاية السلوكية، فيراقبان تصرفات هذا الابن وهذه البنت فيوجهان هذه التصرفات إلى ما هو أفضل.. إلى الصدق والأمانة والإخلاص والوفاء والكلمة الطيبة والتحية والأخلاق الرفيعة.. إلى ما أمر به الله U وأمر به النبي ﷺ، فما بعث النبي ﷺ إلا بالأخلاق الحسنة، قال ﷺ: ((إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)).


وغرس الأخلاق يبدأ منذ الطفولة.. من حين كان هذا الابن طفلاً ناشئاً من أيامه الأولى، تبدأ العملية التربوية، ويتحمل الأبوان مسؤولية حسن التوجيه والرعاية. ولا يقولن الأبوان: (إن ابننا لا يزال صغيراً) صغير اليوم كبير الغد، وما يتلقاه الآن سيظهر في سلوكه في الغد، سواءٌ كان في معجم المفردات التي يتكلم بها، أو في طريقة التصرف مع الآخرين. فإن كان قد تلقى الشراسة في التصرف، غدا شرساً مع مجتمعه، وإذا كان ليناً رقيقاً ذا خلقٍ سامٍ، كان ليناً رقيقاً ذا خلقٍ رفيع مع مجتمعه.


علينا أن نوجه أطفالنا الوجهة الصالحة، ولا نسمح لذئاب الطريق وأصدقاء السوق أن يتلقوا أبناءنا وبناتنا، فيغرسوا في أنفسهم مفاسد الأخلاق ومساوئ التصرفات. علينا أن نحرسهم من كل ما يمكن أن ينعكس على سلوكهم وأخلاقهم بنتائج سلبية يمكن أن تفسد أخلاقهم.


إن الأبوين عندما يرعيان الأبناء والبنات الرعاية الصالحة يحصدان نتيجتين؛ برّ هؤلاء الأولاد بهما في الدنيا، والثواب العظيم الذي يحصدانه أيضاً غداً يوم القيامة. لأن المرء عندما يزرع الخلق الفاضل، كان له كما قال النبي ﷺ: ((مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ كُتِبَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا..)) فإن ربيت أولادك على الأخلاق الفاضلة والعبادة والاستقامة،كان أجر ذلك في صحيفة هذا الابن وفي صحيفتك أنت. لأنك أنت الذي غرست تلك المحاسن وتلك الأخلاق وتلك الاستقامة في شخصية هذا الطفل أو الابن أو البنت.


وإذا ما أهمل الأبوان تربية أولادهما فإن أسوأ النتائج ستنعكس على الأبوين بالدرجة الأولى؛ سيجدان هذه النتيجة في حياتهم الدنيا عقوقاً في سلوك وتصرفات هذا الابن. سيجدان أن ثمرة الإهمال سوء الخلق والعقوق والانحراف السلوكي، فيكون سبةً لأسرته وسبةً لأبويه. بينما إذا كان مستقيماً نظر المجتمع إليه أنه النموذج الأمثل للطفل السوي.. للإنسان الصالح على صغر سنه وعلى نشأته الأولى.


ازرعوا ما تحبون أن تحصدوه في دنياكم وفي آخرتكم وفي بيوتكم وفي أسرتكم وفي المجتمع الذي تعيشون فيه.


للأبوين شركاء في التربية؛ في مقدمة هؤلاء الشركاء المؤسسة التربوية.. المؤسسة التعليمة. نعم؛ المؤسسة التعليمة تتحمل مسؤوليةً كبيرةً جداً في إعداد الجيل وفي بناء شخصية أبنائنا وبناتنا. لذلك فإن على المؤسسة التربوية التعليمية أن تهيئ الكوادر الصالحة لتعليم أبنائنا وبناتنا، وتهيئ المناهج الناجحة الموجهة التي يمكن أن تعد الجيل إعداداً صالحاً، وتعدهم ليكونوا مواطنين لديهم من الأخلاق ما يرتضون أن يكون سائداً في هذا المجتمع؛ من صدقٍ وأمانةٍ وبرٍ وإخلاصٍ وشجاعةٍ وجرأةٍ في الخير وإقدامٍ على الأعمال الخيرة.. على الأخلاق الطيبة.. على حسن التعامل.. على الرحمة بالفقير.. على حسن الجوار.. على بر الوالدين.. على صلة الرحم.. هذه الأمور ينبغي أن تكون مناهجنا متضمنةً لها بشكلٍ دقيقٍ وممنهجٍ حتى نحصد نتائجها مواطنةً صالحةً وأخلاقاً سوية واستقامةً سلوكيةً.


هذا من جهة.. ومن جهة أخرى، فإن تعارض الخطة المنهجية في دروس أبنائنا وبناتنا في المدارس - على اختلاف مستوياتها - إذا كانت متعارضةً متناقضةً، فسوف تكون نتيجتها فصاماً في شخصية أبنائنا وبناتنا. يجب أن تكون الكتلة العلمية التي يتلقاها أبنائنا وبناتنا في المؤسسة التعليمية منسجمةً مع بعضها، هادفةً إلى أهدافٍ سلوكيةٍ وأخلاقيةٍ متزنةٍ سويةٍ صالحةٍ؛ تعد المواطن الصالح للمستقبل لكي يكون أداة بناءٍ لا أداة هدم.. أداة إصلاحٍ لا أداة إفساد.. أداة خيرٍ لا أداة شر.


وهناك شريكٌ آخر للأسرة في تربية الجيل، بل في تربية المجتمع بأسره؛ إنها المؤسسة الإعلامية. المؤسسة الإعلامية تصنع الرأي العام، بل تصنع الفكر وتصنع الخُلُق وتصنع الجيل بتأثيراتها وببرامجها التي تبثها عبر وسائل الإعلام. نحن اليوم بحاجةٍ إلى فنٍ لا يصف الواقع، بل فنٍ يسمو بالواقع؛ يصلح هذا الواقع. نحن لسنا بحاجةٍ إلى أن نرى في أجهزة الإعلام صورةً للواقع السيء، بل نريد أن ترقى أجهزة الإعلام بهذا الواقع وتصلحه وتوجهه الوجهة البناءة؛ إلى الصدق.. إلى الأمانة.. إلى الأخلاق.. إلى الاستقامة.. إلى الشجاعة.. إلى البطولة.. إلى الوطنية.. إلى البناء.. لا إلى الهدم والتخريب والفساد.


على وسائل الإعلام أن تكون برامجها موجهةً توجيهاً صالحاً؛ تعد المواطن الذي يستقيم في سلوكه ويستقيم في علاقاته، وتكون حياته صورةً بناءةً للمواطن الصالح، صورةً صادقةً وإيجابيةً لصلاحٍ نتطلع إليه في أبنائنا وبناتنا بل في كل مواطنينا. فالإعلام يصنع المواطن ويصنع الجيل ويصنع المجتمع، والفساد فيه ينعكس على المجتمع والصلاح فيه ينعكس على المجتمع.


لذلك، على المؤسسة الإعلامية أن تتحمل مسؤوليتها في برامج موجهة تسمو بهذا المجتمع، لتحمل مسؤولياته تجاه أخطر ما نتعرض اليوم له من غزوٍ ثقافي وغزوٍ إعلامي. تحاول وسائل الإعلام في العالم كله نشر العنف والجريمة والفساد وانحراف السلوك والتمزق الأسري. كل هذه الأشياء فنٌ موجودٌ في وسائل الإعلام الأخرى، أما بالنسبة لوسيلتنا الوطنية فإن عليها أن تعد برامجها لبناء المواطن الصالح الذي يواجه مشكلات وطنه بروحٍ مخلصةٍ بناءةٍ صادقةٍ. ويواجه حياته الاجتماعية بتعاملٍ مستقيمٍ مخلص؛ يصدق مع جاره ويصدق مع المتعامل معه.. يكون مستقيماً في كل تصرفاته.. هذا ما نتطلع إليه، وهذا ما نأمله من وسائل الإعلام ومن المؤسسة الإعلامية.


نحن اليوم ننظر إلى الطفل على أنه طفل، وبالتالي لا يعتب عليه.. لا! طفل اليوم قائد الغد. طفل اليوم رجل الغد.. فأعده ليمارس دوره على أحسن وجه، فإذا أهملته اليوم حصدت أسوأ النتائج.


ولعل المؤسسة الصحية التي تتحمل مسؤوليةً كبيرةً شريكٌ مهم للأسرة في تربية وإعداد وحماية أطفالنا. ولعل التوجيه اليوم هو نحو وقاية أبناءنا وبناتنا وأطفالنا من الأمراض السارية وغيرها، لذلك فقد كانت هناك دعوةٌ موجهةٌ للتعاون مع المؤسسة الصحية في تلقيح الأطفال للوقاية من الأمراض السارية المختلفة، سواءٌ كانت شلل الأطفال أو غيرها. فإن علينا أن نكون متعاونين مع المؤسسة الصحية في الاستجابة لدعوتها وحماية أبنائنا وبناتنا وأطفالنا.


أسأل الله تعالى أن يحمي مجتمعنا ويوفق ولاة أمرنا لما فيه الخير والسداد.


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين.

تحميل



تشغيل

صوتي
مشاهدة