مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 13/11/2020

خطبة الدكتور محمد توفيق رمضان البوطي بتاريخ 13 / 11 / 2020

أمّا بعد فيا أيّها المسلمون؛ يقول ربنا جلّ شأنه في كتابه الكريم في وصف نبيه الحبيب المصطفى ﷺ: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ). ويقول ربّنا جلّ شأنه في كتاب الله تعالى: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ). وروى البيهقي عن النبي ﷺ أنه قال: )لَقَدْ شَهِدْت فِي دَارِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ جُدْعَانَ حِلْفًا – وفي رواية: حلف الفضول - مَا أُحِبّ أَنّ لِي بِهِ حُمْرَ النّعَمِ وَلَوْ أُدْعَى بِهِ فِي الْإِسْلَامِ لَأَجَبْت(.


أيّها المسلمون؛ نحن أمام صفحةٍ أخرى من صفحات سيرة سيد الكون وفخر الكائنات الحبيب المصطفى ﷺ. فقد ذكرنا أنه بعد وفاة جده عبد المطلب، كفله عمه أبو طالب. فكان نعم الكفيل ونعم الراعي في رعايته وكفالته وحمايته. وقد صحبه في سفره في تجارةٍ إلى الشام والتقى في منطقةٍ على تخوم الشام برجلٍ كان مقيماً في صومعته يتعبد فيها يدعى بحيرا الراهب.


لفت نظر بحيرا الراهب هذا الغلام الذي لا يتجاوز الثانية عشر من عمره. فأراد أن يتعرف عليه لصفاتٍ لمحها ووجدها فيه. وعندما عرفه وأن أباه قد توفي، قال لأبي طالب: (عد به إلى مكة فإني أخاف عليه يهود). ولفت نظر أبا طالب إلى أن لسيدنا محمدٍ ﷺ هذا شأناً عظيماً وجده في كتبهم المقدسة. هذا موقفٌ لا ينسى، تضاف إليه مواقف وأمورٌ أخرى! وعاد أبو طالب إلى مكة ولما بلغ النبي ﷺ الخامسة عشر من عمره، وجد أن عمه أبا طالب ذو عيال، وما ينبغي أن يكون عبءاً عليه، وأن بمقدوره أن يعمل، فمضى يعمل في رعي الغنم على قراريط لأهل مكة كما قال.


وفي هذه المرحلة تجلى حفظ الله تعالى للنبي ﷺ من أن يقع أوضار الجاهلية وجهل شباب مكة؛ حفظه الله تعالى من ذلك كله. وهكذا نجد أن ربّ العزة جلّ شأنه ألهم نبيه ﷺ أن يعمل وألا يبقى عالةً على عمه وعبئاً عليه. وهكذا ينبغي أن يكون الدعاة؛ ينبغي أن يكون رزقهم ومعيشتهم وكسبهم من كدّ يمينهم؛ لا يعتمدون على الآخرين ولا يعيشون عالةً على الآخرين، بل تبقى يدهم عليا. هذا ما اختاره الله تعالى لنبيه ﷺ، وفي هذا إشارةٌ لكل الدعاة أن يكونوا في حياتهم المادية وفي معيشتهم يعيشون من كسب يدهم ومن كدّ يمينهم، لئلا يكونوا عبئاً على الآخرين ولئلا تكون هناك منّةٌ لأي إنسانٍ عليهم؛ لأن ذلك سيعيق مسيرتهم الدعوية.


ثم إن النبي ﷺ شارك في الأمور العامة في مكة؛ شهد حرب الفجار. ثم حضر حلف الفضول. هذا الحلف الذي عقد في أعقاب حرب الفِجار، وسميت بالفِجار لأن المتحاربين فيها تجاوزوا على حرمة الأشهر الحرم، فاقتتلوا فيها. وهذا تجاوزٌ ما كان من شأنهم أن يفعلوه، ولكنه قد جرى!


بالإضافة إلى أن هذه الحرب قد وقعت بسبب ظلمٍ وقع على أناسٍ يعملون بتجارةٍ للنعمان بن المنذر؛ تجرؤوا عليه باعتبارهم في بلدهم؛ وهذا ظلم! فكان هذا الحلف الذي تعاقد فيه المتحالفون المجتمعون فيه على أن لا يدعوا في مكة مظلوماً إلا نصروه، وكفّوا يد الظالم عنه، وكانوا معه حتى يرتفع الظلم عنه.


كما أن النبي ﷺ شهد بعد ذلك بناء الكعبة الذي تم والنبي ﷺ في الخامسة والثلاثين من عمره.


تابع النبي ﷺ بعد ذلك عمله في كسب الرزق والاعتماد على نفسه فيه؛ فعمل في التجارة. ذلك أن السيدة الطاهرة الشريفة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها سمعت بصفات النبي ﷺ وبأمانته وصدقه فرغبت أن تعطيه المال ليتاجر به في بلاد الشام، فرضي النبي ﷺ ووعدته أن تعطيه ضعف ما تعطي غيره.


فمضى ومضى معه غلام خديجة ميسرة. وهنا شاهد ميسرة من أمانة النبي ﷺ وصدقه وسموّ صفاته ورفيع أخلاقه ما أدهشه، كما أنه لاحظ أموراً عجيبةً فيها الإشارة إلى شأن النبي ﷺ وعناية الله به. فقد ورد في الروايات أن غمامةً كانت تظلّله طيلة مسيره إلى الشام وعودته منها. فروى ميسرة ذلك كله بالإضافة إلى أمورٍ أخرى للسيدة خديجة رضي الله عنها، فأمّلت السيدة خديجة أن يكون هذا الرجل الشريف الطاهر الصادق الأمين زوجاً لها. فأرسلت صديقتها نفيسة بنت منية إلى النبي ﷺ تعرض عليه أن يخطبها، فأرسل إلى أعمامه ليخطبوها له.


وصحيحٌ أن السيدة خديجة كانت تكبره بخمسة عشر سنة، ولكنها كانت شريفةً طاهرةً ذات شأنٍ ونسب، ويلتقي نسبها بنسب النبي ﷺ في جده قصي. وخُطبت خديجة من قبل عمّه حمزة وحضر العقد أبو طالب، وتم زواج سيدنا رسول الله ﷺ من السيدة خديجة رضي الله تعالى عنها. ومنها أنجب جميع أولاده، إلا إبراهيم الذي ولدته له مارية القطبية. وقد توفي أولاده الذكور جميعهم صغاراً وعاش بناته، إلا أنهن توفين في حياته، إلا فاطمة توفيت بعده بستة أشهر رضي الله عنها وعنهن جميعاً.


هنا نقف أمام هذه المشاركات التي شارك فيها النبي ﷺ. شارك في حلف الفضول وشهد حرب الفجار. وشارك في بناء الكعبة إذ تصدعت ووهن بناؤها نتيجة الزمن وتعرض الكعبة المشرفة لسيولٍ جارفة، وبالإضافة إلى أن بعض ذوي النفوس الخسيسة سرقوا كنوز الكعبة، فاقتضى الأمر أن يجدد بناؤها. فشارك النبي ﷺ بنفسه في بنائها مع سائر أشراف وكبار مكة.


وكان له دورٌ عظيمٌ جداً لا ينسى، ذلك أنهم بعد أن أنهوا بناء الكعبة المشرفة، اختلفوا لمن سيكون شرف حمل الحجر الأسود ووضعه في مكانه. وكاد الخلاف فيما بينهم أن يتحول إلى حربٍ دموية! ثم إنهم احتكموا إلى الأمين الصادق ﷺ، وبحكمته التي رزقه الله إياها وأعده من خلالها للدور العظيم الذي سيكلفه به، ارتضوه حكماً فوضع ثوبه ثم وضع الحجر عليه، وطلب من زعماء القبائل أن يحمل كلٌ منهم طرفاً من الثوب إلى أن وضعوه إلى جانب الكعبة فوضعه في مكانه.


وهكذا حقن الدماء وأصلح فيما بين الزعماء وتجلّت صفة الحكمة العظيمة في سيدنا رسول الله ﷺ الذي غدا موضع تقديرٍ واحترامٍ وثقةٍ من زعماء مكة كلهم.


 وهنا يتساءل الإنسان: هذا الصادق الأمين الذي عرفوه والذي لم يسجد لأصنامهم، ولم يعتقد بترّهاتهم وخرافاتهم؛ لم يجدوه يوماً يعظم صنماً من أصنامهم، بل كان يشيح ببصره عنها ويعرض عنها ولا يلتفت إليها، لأنها لا تتجاوز كونها حجارةً تافهة. هكذا كان النبي ﷺ يرى فيها.


لم يعترضوا عليه، ولكنه عندما بُعث ونزل عليه الوحي وبلغهم دعوة الله هنا استكبروا وأعرضوا واتهموه بأنه شاعر ومجنون وكذاب وغير ذلك؛ أعرضوا عنه وأشاحوا بوجوههم عن دعوته، بل حاولوا قتله واضطهدوه وأصحابه.


هذا التناقض ليس مرده شكٌ في صدق رسول الله ﷺ فهم أعلم الناس بصدقه، وليس مرده شكٌ في حكمة النبي ﷺ بل هم أعلم الناس بحكمته، إلا أنه الاستكبار. ولأنهم أبَوا أن يخضعوا لدعوةٍ إلهيةٍ يحملها سيدنا رسول الله ﷺ إليهم. أخذتهم عزّة الجاهلية، و: (وَقَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّة). إنما هي التبعية العمياء كما نقل القرآن قولهم أيضاً: (وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ) بمثل هذا المنطق الأخرق واجهوا دعوة رسول الله ﷺ. تُرى هل هذا الموقف يمكن أن يكون أساساً لقناعةٍ أو فكرٍ أو عقلٍ أو منطق؟! ناداهم قائلاً لهم: (تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ) (قُلِ انْظُرُوا) (أَفَلاَ تَعْقِلُونَ) (أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ) (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ).


بهذا المنطق دعاهم ونادهم إلى عزةٍ في الدنيا ونجاةٍ في الآخرة إلا أنهم أعرضوا. فماذا كانت النتيجة؟ اضطهدوه حتى اضطروه أن يخرج من مكة إلى المدينة مهاجراً، لتنتصر الدعوة بعد ذلك وينهزم الشرك وأهله.


وستنتصر الدعوة اليوم أيضاً كما انتصرت بالأمس وسينتصر الحق كما انتصر بالأمس وسيهزم الباطل كما انهزم بالأمس.


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين.

تحميل



تشغيل

مشاهدة
مشاهدة