مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 12/07/2019

خطبة الدكتور توفيق البوطي بتاريخ 12 / 7 / 2019

خطبة الجمعة للدكتور محمد توفيق رمضان البوطي


في جامع بني أمية الكبير بدمشق بتاريخ 12 / 7 / 2019


أمّا بعد، فيا أيّها المسلمون؛ يقول ربّنا جلّ شأنه في كتابه الكريم: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ) وجلّ شأنه في كتابه الكريم: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ). وروى الشيخان عن النبيّ أنه قال: (( أيها الناس توبوا إلى الله واستغفروه فإني أتوب إلى الله في اليوم مائة مرة)) وفي لفظ ((أكثر من سبعين مرة)). هذا هو النبيّ الكريم المعصوم، يستغفر الله في اليوم مئة مرة، أليس أجدر بنا أن نكون المبادرين إلى الاستغفار؟!


أيّها المسلمون؛ التّوبة مراجعةٌ للنفس، مراجعةٌ للذات، وعودةٌ إلى الرشد بعد الغواية، وإلى الصّلاح بعد فساد، وإلى الهداية بعد ضلال. الرشد حالة وعيٍ لما يستقبل الإنسان. هو يتمتع في السّاعة التي يعيشها، ولكنه والله لا يملك دقيقةً واحدةً بعدها، قال تعالى: (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا ۖ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ). أنت اليوم هنا، ولكنّك غداً في قبضة الله - الآن وفي الغد - آيلٌ إلى الله، لتقف بين يديه، حيث تبدو السّريرة علانية، حيث ترى صحيفة أعمالك. اقرأها من الآن قبل أن تستلمها غداً، عد إلى نفسك.. عد إلى رشدك.. استيقظ وانتبه.


نعم؛ التّوبة تغييرٌ. والله تعالى يقول: (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ) ما كان الله ليغيّر نعمة الأمان إلى حالةٍ من الاضطراب والخوف إلا بسببٍ منّا. وما من سبيلٍ إلى أن تعود الأمور إلى حالةٍ من الأمن والاستقرار والازدهار، إلا بعودةٍ راشدةٍ إلى الله. نعم؛ التّوبة حالةٌ إيجابيةٌ تدفع بصاحبها إلى الإقبال على الله ومحاسبة النفس؛ تدفع به إلى صلاحٍ بعد فساد، وطاعةٍ بعد معصية. تستيقظ فيها الفطرة التي أودعها الله في كياننا لتردّنا إلى حالةٍ من الوعي بعد غفلة وشرود.


ما شعورك عندما تسمع نداء الله يقول لك: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ)؟! هذه الآية سمعها مسرفٌ على نفسه، موغلٌ في طرق الغواية والمعاصي، الفُضيل بن عياض، كان مسرفاً على نفسه، وقد تنكّب عن طريق الخير إلى مسالك المعصية. وبينما كان في طريق معصيته، إذ سمع متهجداً يتلو هذه الآية: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ). هزّت هذه الآية كيانه، واستيقظ بعد غفلةٍ، وعاد إلى رشدٍ بعد غواية، وقال: يا ربّ لقد آن. وتحول الفضيل بن عياض من حالةٍ إلى حالة، من غوايةٍ إلى رشد، من معصيةٍ إلى طاعة، من بعدٍ إلى قربٍ إلى الله سبحانه وتعالى، حتى غدا الفضيل بن عياض ذا المكانة الرفيعة بين أهل العلم والفضل والصّلاح، يأتيه الخلفاء والأمراء ليسمعوا منه موعظةً تردّهم إلى رشدهم وتهديهم بعد ضلال.


أيّها المسلمون؛ عندما تسمع نداء الله يخاطبك - يخاطبنا جميعاً - برقّةٍ ولطفٍ ورحمة: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ( وكلنا ذاك الرجل. ألا يجدر بنا أن نستجيب لهذا النّداء الرّقيق العذب اللّطيف المفعم بالرّحمة، أن يحرّك في قلوبنا حوافز الاستجابة لنقول له: لبيك يا الله.. لبيك يا رب.. والله لقد أسرفنا على أنفسنا، وها نحن مقبلون عليك.. قد تبنا إليك فاقبل توبتنا.


نعم؛ هذا هو الجدير بنا. كم من إنسانٍ كان مسرفاً على نفسه فأمعن الشيطان في تضليله، وأوهمه أسباب اليأس والقنوط. وهل يقنط العبد من رحمة ربه؟! هل ييأس العبد من رحمة الله ؟!  ولكن هل أنت ضامنٌ لنفسك الغد؟! هل أنت ضامنٌ لنفسك مستقبلك؟! إذا لم تستيقظ اليوم فغداً ليس ملكك. أنت في قبضة من يتحكّم بك، أنفاسك بيده، نبضات قلبك تحت سلطانه، عد إلى رشدك واستجب لنداء ربك: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ).


وقد ذكر العلماء شروطاً للتّوبة. التّوبة ليست كلمةً ميتةً على اللّسان ،نعم كلمة "استغفر الله". كلمة "استغفر الله" تهزّ كيان العبد الصادق. لأنّها يقول بها لربه: يا ربّ عدتُ إليك.. عدتُ إلى أعتاب رحمتك.. التجأتُ ببابك.. ارتميت على أعتابك.. أنا نادمٌ، أنا آسفٌ، أنا صادقٌ في الاقبال عليك. لذلك ذكر العلماء شروطاً للتوبة.


الشّرط الأول، الإقلاع عن المعصية؛ إنّه التّغيير.. إنّه التحّول من الغواية إلى الرّشد، ومن المعصية إلى الطّاعة. إنه التحوّل الصادق؛ الإقلاع عن المعصية. الأمر الآخر، الندم والحرقة والحياء من الله والخشية من عقابه. عد إلى نفسك، وتخيّل موقفك بين يدي الله يوم تفتّح سجلات أعمالك، وفيها ما فيها وأنت أدرى بما فيها. لذلك، استعمل وسيلة العودة إلى الله، ليقول لك ربّك: حيهلا  بك.. قد عفوتُ عنك. والله سبحانه وتعالى هو الذي قال لنا: (إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا) إذا صدقت في التوبة، إذا صدقت في النّدم، إذا صدقت في الإنابة، إذا ملأ قلبك حسرةٌ وخجلٌ وحياءٌ من الله. الأمر الثالث؛ العزم الصّادق على ألا تعود لما كنت عليه. عزمٌ صادقٌ، ولئن زللت سرعان ما ترجع، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فإذا هُمْ مُبْصِرُون) نعم يعودون إلى رشدهم مباشرةً، لا يوغلون في سبل الغواية وقد استيقظ قلبهم.


الشّرط الرابع، إذا كانت المعصية فيما بينك ويبن الناس، أن تردّ إليهم حقوقهم، وأن تستسمح منهم. وما أظنّ إنساناً فيه ومضةٌ من إيمانٍ أتى إليه أخوه يقول له: "أنا أعتذر منك يا أخي، لك عليّ حقّ وأريد أن أردّه إليك، قد لا أكون الآن قادراً، ولكني آسف وسأرد إليك حقك". أعتقد أن كلّ مؤمنٍ، لا بد أن يعتبر هذا سبباً لصلاحٍ بينه وبين أخيه، ورشدٍ للعلاقة فيما بينهما. وعليه أن يشجّع أخاه وصاحبه على أن يستقيم في حياته، بأن يفتح له صفحةً جديدةً من العلاقة معه.


أيّها المسلمون؛ قد روى البخاري عن النبيّ أنه قال: ((يقول الله: أَنَا عَنْدَ ظَنّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ إذا َذَكرَنِي)) وفي حديث آخر: ((أنا جليس من يذكرني)). وأنا معه، نعم أنت إذا ذكرت الله كان الله معك، وإذا ذكرت الله بقلب حاضر (إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا) يقول الله فيما رواه البخاري: ((أَنَا عَنْدَ ظَنّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ إذا  دَكَرَنِي، فإِنْ ذَكَرَنِي في نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ في نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي في مَلإٍ ذَكَرْتُهُ في مَلإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وَإِنْ اقْتَرَبَ إليّ شِبْراً اقْتَرَبْتُ مِنْهُ ذِراعاً، وَإِنِ اقْتَرَبَ إِليّ ذِرَاعاً اقْتَرَبْتُ إلَيْهِ بَاعاً، وإنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً)). ما هذه الكنايات البديعة من رحمة الله.


أقبل إلى الله، يقبلِ الله تعالى عليك برحمته وعفوه وصفحه وعطاءه وإحسانه. اصدق في الإقبال على الله، والله لتجدنّ أسباب الحياة السّعيدة الرغد قد تكاثرت من حولك. ستجد أثر رحمة الله في حياتك.


وروى ابن المبارك عن أبي الدرداء أنه قال: ((أَضْحَكَنِي ثَلاثٌ، وَأَبْكَانِي ثَلاثٌ: ضَحِكْتُ مِنْ مُؤَمَّلِ الدُّنْيَا وَالْمَوْتُ يَطْلُبُهُ، وَغَافِلٍ لا يُغْفَلُ عَنْهُ، وَضَاحِكٍ بمِلْءِ فِيهِ لا يَدْرِي أَمُسْخِطٌ رَبَّهُ أَمْ مُرْضِيهِ [وهنا الضحك بمعنى العجب] وَأَبْكَانِي ثَلاثٌ: فِرَاقُ الأَحِبَّةِ مُحَمَّدٍ وَحِزْبِهِ أو: وصحبه، وَهَوْلُ الْمَطْلَعِ عِنْدَ غَمَرَاتِ الْمَوْتِ، وَالْوُقُوفُ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّ الْعَالَمِينَ [يوم تبدو السريرة علانية] حِينَ لا أَدْرِي إِلَى النَّارِ انْصِرَافِي أَمْ إِلَى الْجَنَّةِ )).


إنا لنرجوا الله أن يفتح لنا أبواب رحمته، وأن يجعلنا من أهل الجنة بفضله وإحسانه، وأن يرزقنا صدق الإقبال إليه وصدق الإنابة إلى أعتابه.


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين.

تحميل



تشغيل

صوتي
مشاهدة