مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 11/08/2019

خطبة عيد الأضحى المبارك الدكتور توفيق البوطي بتاريخ 11 / 8 / 2019

خطبة عيد الأضحى المبارك للدكتور محمد توفيق رمضان البوطي


في جامع بني أمية الكبير بدمشق بتاريخ 11 / 8 / 2019


الله أكبر الله أكبر الله أكبر...


الحمد لله ...


للعيد معنى ديني ومعنى اجتماعي، ولعيد الأضحى معنى ديني يتجلى في فضل الأيام المعدودات من عشر ذي الحجة، مضى عشر ذي الحجة وقد تنافس فيه المتنافسون، واغتنمه من اغتنمه بالقربات والطّاعات والصّيام والقيام، والذكر والصّدقات وتلاوة القرآن، وبذل ما استطاعوا بذله لذوي الحاجات. ثم ختم ذلك بالأيام المعدودات التي أشار إليها في كتابه فقال: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ) التي هي أيام العيد. يوم النّحر وأيام التّشريق؛ أي الأيام الثلاثة التي تليه. ثم شرع لنا في هذا العيد الأضحية وأمرنا بذبحها.


أما المعنى الاجتماعي للعيد، فهو حالة التواسي والتزاور والتواصل بين المسلمين لتوطيد علاقاتهم الاجتماعية. ألم يقل ربنا تبارك وتعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ)؟ ائتمننا على الأخوّة التي عقد رباطها ربّ العزّة جلّ شأنه، فأمرنا بتوطيدها وإصلاح ما قد يعتريها من أسباب الوهن والضعف. هذا ما ينبغي أن نضعه نصب اهتمامنا.


وهذا المعنى يستلزم أموراً في المناسبةٌ الاجتماعية في مقدّمتها صلة الرّحم. فينبغي في هذا العيد أن نوطّد العلاقة بيننا وبين أرحامنا، وأن نرمّم ما قد تتعرّض له هذه العلاقة لسببٍ ما من الأسباب، فنكون كما قال الله تعالى: (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ). في هذا العيد، يتعانق ذوو الأرحام.. يتعانق الأقرباء.. يتزاورون ويتسامحون ويتصافون. تتوطد علاقة المحبة فيما بينهم، وتغسل أدران تلك الأمور التي علقت في صدورهم أسباب الجفاء.  وكذلك الأمر بالنسبة للجوار. ألم يوصنا ربنا بالجار؟! ألم يقل النّبي: ((مَا زَالَ جبرِيلُ يُوصِيني بِالجَارِ حَتَّى ظَنَنتُ أَنَّهُ سَيُوَرّثُهُ))؟


المعنى الآخر هو أن نوطّد العلاقة فيما بيننا مع كلّ إخواننا، مع كلّ مسلم. ما ينبغي أن تكون العلاقة بين المسلم وأخيه المسلم علاقةً سلبيةً؛ علاقةَ جفاء، علاقةً فيها كراهيةٍ أو سوء معاملة. فربنا تبارك وتعالى قد كلّفنا أن نصلح فيما بيننا، والنّبي يقول: ((لا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ، يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلامِ)). نعم أوصانا الله تعالى بكلّ هؤلاء عندما قال لنا: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ). حتى ذلك الغريب الذي حلّ في بلدنا، فانقطعت به الطّريق دون الوصول إلى بلده، له علينا حقٌّ أن نكرمه وأن نوصله إلى بلده، ونيسّر له أسباب عودته إلى ذويه.


هذا هو الإسلام، إسلامٌ يبني مجتمع المحبّة.. مجتمع التآلف والتعاون والتحابب. مجتمع: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ)، مجتمع: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا)، مجتمع: (وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ). هذا المجتمع الذي أوصانا النبي به فقال: ((مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ؛ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى)). وفيه يقول النبي في توصيتنا بتوطيد العلاقة فيما بيننا: ((الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ، وَلَا يُسْلِمُهُ، وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ، كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً، فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ)).


المجتمع المسلم مجتمع التضامن.. مجتمع التحابب. أمّا الحالة التي آل إليها المسلمون اليوم، فإنّها حالةٌ مؤسفة. هي حالةٌ لبّى المسلمون فيها نزغ الشيطان، إذ وصفهم الله تعالى بقوله: (إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ ۚ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا). شياطين الإنس وشياطين الجنّ يحاولون دائبين إفساد العلاقة فيما بين المسلمين، وإثارة الخلافات فيما بينهم، ليتمكّنوا من إسلامهم وليسيطروا على بلادهم ومقدّراتهم.


أجل، هذا دأب شياطين الإنس من دول الطغيان والبغي والعدوان؛ أن يتآمروا على أمّتنا فيثيروا أسباب النّزاع والكراهية فيما بيننا. وإنّه لمن ما يؤسف له أن نجد بعض المسلمين يستجيبون لنزغ الشيطان.. بمؤامرات العدو. فيقومون بإثارة النّزاعات ويحدثونها ويثيرونها. بل يزيدون على ذلك أن يشعلوا حروباً دمويةً فيما بينهم وبين إخوانهم.. يرفعون السلاح فيما بينهم وبين إخوانهم.. حتى إذا ناداهم الجهاد لتحرير المسجد الأقصى أغمدوا السلاح وطأطأوا الرؤوس أذلاء. هذا مما يؤسف له في مجتمعانا اليوم.


الله تبارك وتعالى يأتمننا على أمتنا.. على وحدتنا.. على تحاببنا.. على تعاطفنا. والتعاطف يبدأ بالأسرة من خلال برّ الوالدين، ويمتدّ إلى الأرحام، ثم إلى الجيران، ثم إلى المجتمع الإسلامي برمّته.


نسأل الله تعالى أن يعيد إلينا الألفة والمحبة وأن يزيل مما بيننا أسباب الخصومة والكراهية، حتى نكون كما أمر ربنا إذا قال: (فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ).


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين.

تحميل