مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 11/12/2020

خطبة الدكتور محمد توفيق رمضان البوطي بتاريخ 11 / 12 / 2020

أمّا بعد فيا أيّها المسلمون؛ يقول ربنا جلّ شأنه في كتابه الكريم: (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ) ويقول سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا * إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا)


 أيّها المسلمون؛


 يذكر الإمام الطبري وعلماء السيرة والمحدثون أن المشركين في مكة نالوا من النبي ﷺ أذىً كثيراً، واتهموه بالسحر والجنون والشعر ونسبوا إليه الكذب تنزه عن ذلك ﷺ قالوا: (بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ) إلى آخر ما هنالك. وبعد موت أبي طالب اشتد عليه الأذى وتجرأ مشركو مكة كما لم يتجرأوا من قبل، حتى ضاق به الأمر. فخرج إلى الطائف يبحث عن مناخٍ يستجيب الناس فيه لدعوته، وتوجه بالدعوة إلى أهل الطائف وزعمائهم، فكان موقفهم أسوأ من موقف مشركي قريش؛ استقبلوه أسوأ استقبال، ومع أن الضيف ينبغي يكرم. وهكذا كانت عادة العرب، إلا أن هذه العادة في الطائف انخرمت وشذت؛ لأنه واجههم بدعوةٍ إلى توحيد الله تعالى، فكذبوه واستهزأوا به وشتموه، ووجهوا سفهاءهم لينالوا منه بشتائمهم وحجارتهم. فانصرف الحبيب المصطفى ﷺ عائداً إلى مكة ليتابع مسيرة الدعوة على أرضٍ وعرة شائكة صعبة، ولكن لا بد من الثبات والصبر.


انصرف النبي ﷺ متوارياً عن حجارة سفهاء الطائف، وبعد مسافةٍ طويلةٍ مشيها على قدميه في أرضٍ وعرة تبلغ نحو ثمانين كيلومتراً، حتى وصل إلى ظل حائطٍ – أي: بستانٍ - لعتبة وشيبة ابني ربيعة. وهناك رفع يديه إلى الله ضارعاً إليه بهذا الدعاء الخالد: "اللّهُمّ إلَيْك أَشْكُو ضَعْفَ قُوّتِي، وَقِلّةَ حِيلَتِي، وَهَوَانِي عَلَى النّاسِ، يَا أَرْحَمَ الرّاحِمِينَ! أَنْتَ رَبّ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَأَنْتَ رَبّي، إلَى مَنْ تَكِلُنِي؟ إلَى بَعِيدٍ يَتَجَهّمُنِي؟ أَمْ إلَى عَدُوّ مَلّكْتَهُ أمرِي؟ اللّهُمّ إنْ لَمْ يَكُنْ بِك عَلَيّ غَضَبٌ فَلَا أُبَالِي، غيرَ أنَّ عافيتَك هي أوسعُ لي، أعوذُ بنورِ وجهِك الَّذي أشرقتْ له الظُّلماتُ وصلُح عليه أمرُ الدُّنيا والآخرةِ أن تُنزِلَ بي غضبَك أو تُحِلَّ عليَّ سخطَك لك العُتبَى حتَّى ترضَى". وإنه لدعاءٌ واجف تهتز له السماوات.


نزل جبريل بأمرٍ من الله ومعه ملك الجبال وقال له: "يا محمد إن شئت أطبقتُ على أهل مكة الأخشبين" أي: أهلكتهم. ما كان النبي ﷺ ليرضى بإهلاك من آذوه وشتموه ونالوا منه، بل أرادوا قتله. ما الذي قاله؟ قال: "بل أرجو أن يأتي من أصلابهم من يؤمن بي فيدخل الجنة" إن لم يؤمنوا هم فسيؤمن أبناؤهم.


بهذه النفس الطيبة الطاهرة واجه إيذاء قريش، فماذا كانت النتيجة؟ صبر النبي ﷺ وتحمل وعاد ليتابع السير، ولكنه غدا يبحث عن منطلقٍ لدعوته خارج مكة، فأكرمه الله تعالى وفتح أمامه الآفاق. أول أمرٍ أكرمه الله به هو معجزة الإسراء والمعراج. وكأنه بقول له: لئن ضاقت بك الأرض فملائكة السماء ترحب بك. وارتقى به جبريل برحلة المعراج حتى بلغ السماء السابعة وهناك توقف جبريل ليرقى النبي ﷺ وحده إلى سدرة المنتهى، لأنه مقامٌ لا ينبغي لغيره أن يبلغه، وهناك ناجى ربه وأوحى إليه ما أوحى، ومما أوحى فريضة الصلوات الخمس.


كان هذا أول إكرامٍ للنبي ﷺ بعد الرحلة المؤلمة؛ وأما الإكرام الثاني: فإنه انطلق بدعوته، وتابع السير ما كان ليتوقف وما كان لينهزم. مضى بحث لدعوته عن منافذ أخرى في الوفود القادمة إلى مكة، ولعله قد لقي من الرد السلبي أو اللطيف أو غيره ما لقي، إلى أن جمعه الله تعالى بوفدٍ من الأوس والخزرج؛ من أهل يثرب المدينة المنورة. فلما عرض عليهم دعوته، قالوا: (تعلمنّ إنه للنبي الذي توعدتكم به يهود)


أرأيت؟ كان توعد اليهود لهم بنبيٍ أظل زمانه سبباً في إشراق نور الهداية في قلوبهم واستجابتهم لدعوة النبي ﷺ وقالوا له: (لقد تركنا فومنا وما بين قومٍ من العداء والنزاع مثل ما بينهم، فإن يجمع الله بك أمرهم فلا رجل أعز منك). وكانت هذه فاتحة انفراجٍ في الدعوة الإسلامية. أما اليهود فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به !!


نعم استهزأ به أبو جهل وأبو لهب والوليد وعقبة بن أبي معيط؛ وآذوا النبي ﷺ أشد الأذى وسخروا منه، ولكن ماذا كانت العاقبة؟ مضى أبو جهل وأبو لهب ومضى عقبة والوليد وغيرهم من صناديد الشرك إلى نفايات التاريخ وهامشه، ونسيهم الزمن، وارتفع شأن النبي ﷺ وانتصرت دعوته، ولا تزال تنتصر وتنتقل من نصرٍ إلى نصر ومن امتدادٍ إلى امتداد رغم أنف الحاقدين والحاسدين والضاغنين.


واليوم يسخر سفهاء الغرب ويسيئون - بتخيلهم - برسومٍ ينسبونها إلى النبي ﷺ، فما موقفنا نحن؟ الذي ظهر لنا أن الموقف كان مجرد ردود فعلٍ آنية، ما لثبت أن خمدت أو ستخمد. هكذا كان الموقف؛ ومع ذلك لا زال كثير منا يعتبر الغرب بضلالاته وفسقه وفجوره وانحرافاته قدوةً لكثيرٍ منا، أليس كذلك؟! في ملبسهم ومطعمهم ومشربهم وعاداتهم وسلوكهم وانحرافاتهم!


ليست هذه هي النصرة الصحيحة للنبي ﷺ إزاء سخرية وشتم واستهزاء سفهاء الغرب؛ بل النصرة الصحيحة أن نزداد معرفةً برسول الله ﷺ، بهديه وشمائله وسيرته ودعوته ودينه والمبدأ الذي دعا إليه؛ بأن نتعمق في معرفة ذلك، حتى نبني موقفنا على أساسٍ من العلم والمعرفة، لا على أساس العاطفة الآنية وردود الفعل.


والأمر الآخر: أن نزداد تمسكاً بإرشاداته وهديه وسنته وأخلاقه وما أمرنا به واجتناباً لما نهانا عنه.


والأمر الثالث: أن نضع خطةً علميةً منهجيةً مدروسةً في كيفية توجيه الدعوة وشرح حقيقة الإسلام وحقيقة رسالة النبي ﷺ للعالم كله ليتضح تزييف المزيفين ودجل الدجاجلة وكذب الكاذبين، ولتتضح الصورة المتألّقة المشرقة لحبيبنا المصطفى ﷺ، فترجمة سيرة النبي ﷺ هي أعظم نصرةٍ له، وليست المظاهرات ولا المقاطعات؛ كل ذلك ردود فعلٍ آنية! لكن المطلوب منا أن نكون أشد حرصاً على هديه معرفةً وتمسكاً ودعوةً إليه.


وكما انهزم أبو جهل وسقط في أرض بدر هو وعتبة وشيبة والوليد وغيرهم، سينهزم طغاة الغرب وسائر أعداء دعوتنا بمقدار إخلاصنا وصدق انتمائنا إلى رسول الله ﷺ وصدق تمسكنا بهديه ﷺ. نسأل الله أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً.


أما الشعارات، فهذا أمرٌ لا قيمة له. يقول الله سبحانه وتعالى: (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ) والله ليس بحاجة لنصرتنا، لكن إن صدقتم في إيمانكم.. إن صدقتم في التزامكم.. إن صدقتم في تمسككم، سينصركم الله. وإلا، يقول ربنا تبارك وتعالى: (وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ).


أسأل الله سبحانه وتعالى أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً وأن ينصر المخلصين من عباده إنه سميعٌ مجيب.


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين.

تحميل



تشغيل

مشاهدة
صوتي