مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 10/01/2020

خطبة الدكتور توفيق البوطي بتاريخ 10 / 1 / 2020

خطبة الجمعة للدكتور محمد توفيق رمضان البوطي


في جامع بني أمية الكبير بدمشق بتاريخ 10 /  1/ 2020


أمّا بعد فيا أيّها المسلمون؛ يقول ربنا جلّ شأنه في كتابه الكريم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا * هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا) ويقول سبحانه: (وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ) ويقول سبحانه: (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) ويقول سبحانه: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ). وروى البخاري عن النبي ﷺ عن ربه سبحانه وتعالى: (أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَأٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً).


أيها المسلمون؛ الإيمان يبدأ إيماناً عقلياً، قناعةً تستقرّ في العقل نفسّر من خلالها حقيقة هذا الوجود، ويدرك من خلالها أن لهذا الكون من نظّمه وخلقه وأبدعه، وأن هناك من يحيطه بإنعامه وفضله وإحسانه. فهو إن مشى، فبقوةٍ أودعها فيه. وهو إن فكّر، فبعقلٍ أكرمه الله U به. وهو إن طعم، فبرزقٍ اعتصر الله سماءه وفجر أرضه لكي يتنعم بطعام هذه الأرض. وهو إن رأى، فببصرٍ أكرمه الله U به.


فإذا رأى ذلك كله، إذا رأى أنه قد أحيط بكل هذه النعم، أحب من أسدى إليه تلك النعم، أحب من أعطاه ذلك كله. فإذا أحب المرء، فإن هذا الإنسان المحب يكثر من ذكر محبوبه.. يكثر من الحديث عنه.. يكثر من الحديث عن آلائه وعن صفاته وعن إحسانه وعن فضله وعن عظمته وعن قوته ..عن عظيم صنعه ..عن بديع حكمته. يكثر من ذكر ذلك كله.. يفيض قلبه تعظيماً وحباً له.


نعم؛ الإنسان إذا استقرّ الإيمان في قلبه، فعرف أنه مخلوقٌ لله جلّ شأنه، أحاطه الله بنعمٍ كثيرةٍ وأنه، أبدع هذا الكون على أحسن نظامٍ أوجده، فإن هذا الإنسان يحب من أحسن إليه. كيف لا؟ والإنسان من شأنه أن يحبّ من أسدى إليه معروفاً، فكيف وقد أحيط بنعم الله وغرق في إحسانه؟!


قال سبحانه: (وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ). إذا رأيت، فبنعمةٍ منه.. وإذا سمعت، فبحاسةٍ أودعها فيك.. وإذا فكرت، فبعقلٍ أودعه فيك.. إذا أكلت، فنعمةٌ من الله U أودعها في هذه الأرض من نباتاتٍ وحيواناتٍ وغير ذلك، لكي تنعم وتطعم وتتلذّذ.. وإذا أودع الله سبحانه وتعالى عبيراً وشذىً في هذا الكون، فلقد أكرمك سبحانه جلّ شأنه بماذا؟ أكرمك بحاسة الشم لكي تنعم بتلك الروائح الشذيّة العطرة. هل تذكرت ذلك كله؟ هذا المعروف الذي أحطت به من كل جانب، من أعلاك ومن أسفلك وعن يمينك وعن شمالك.. أنت غارقٌ في نعم الله U، فكيف تنساه؟ كيف تنساه وقد أسدى إليه ذلك كله؟. إذا أحببته فأكثرت ذكره، فأنت عندئذٍ تجسدت فيك الآية القرآنية التي يقول فيها الله U: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُون * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ).


أجل، عندما يفيض قلبك حباً له وتعظيماً له، يهون أمامك حبّ غيره. ولا يمكن - وأنت تعيش في كل شؤونك بنعمه - أن تؤثر غيره عليه. وعندما ترى عظيم صنعه وعظيم قدرته، فإنه لا يمكن أن يرقى إلى قلبك مكانةً من العظمة غيره Y. لذلك تهون عندك الأسماء والادعاءات كلها، ولا ترى لأحدٍ وجوداً إلى جانب وجوده. عندما يفيض قلبك بتعظيم الله U وترى شدة بطشه وعظيم صنعه وإحكام نظامه، فإنك عندئذٍ تدرك حقيقة: (وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا).


أمضى الإنسان القرون إثر القرون وهو يفكر في ذاته.. يفكر في الارض التي يعيش فيها لكي يدرك بعضاً من أسرارهاً. وكلما تمعّن أكثر ودقّق أكثر فأكثر، أدرك أن ما أدركه وما فهمه من حقائق هذا الكون، ومن عظيم حكمة الله فيه، هو أقلّ بكثيرٍ مما يجهله منه. عندئذٍ؛ عندما يكون هذا القلب قد فاض بمحبه الله وتعظيم الله وشكر الله وتدبّر عظيم حكمة الله U.. عندئذٍ؛ تهون عنده التضحيات وتعظم عنده الغايات. فإذا تراقصت أمامه المغيرات، أشاح عنها واستعلى عليها، ورأى إغراء الجنة بوعد الله U لا يمكن أن يرقى إليه إغراءٌ بعد ذلك. عندما يرى وعد الله له بسعادة الآخرة، ماذا يمكن أن تغنيه سعادة أيامٍ قليلةٍ في الدنيا؟ عندما يستشعر في قلبه محبة الله ومراقبة الله، عندئذٍ هل يمكن أن يعصيه؟ هل يمكن أن يجرؤ على أن يخالف أمره؟ هل يمكن أن تسوّل له نفسه التجاوز على حدوده؟ هو يعيش دائماً تحت مراقبة الله سبحانه وتعالى. حياؤه يمنعه من المعصية.. تعظيمه لله Y وخشيته منه تردعه عن المعصية.. حبه لله جلّ شأنه لا يمكن أن يسمح له بأن يعصي الله U.


كذلك الذكر؛ عندما يفيض به قلب الإنسان المؤمن، فيفيض حباً لله.. تعظيماً لله.. خشيةً من الله.. حياءً من الله سبحانه وتعالى. وعندئذٍ؛ لا يمكن أن تتغلب عليه شهوة، أو أن تفتنه إغراءات الدنيا بكل شهواتها. نعم؛ هو يجد شهوات الدنيا وظيفةً لبقاء النوع الإنساني؛ لبقائه من خلال طعامه وشرابه وزواجه. ولكنه ليس غايةّ، وإنما كل ذلك وسيلةٌ يتقرب بها إلى الله U، بحسن استثمارها وحسن استخدامها.


عندما يكون ذاكراً لله U، لا يمكن أن يرقى تعظيم مخلوقٍ مهما بلغ شأنه إلى منزلة من أحبه وعظّمه في قلبه هذا الإنسان المؤمن بالله U. لاحظوا الآيتين التي تلوتهما من سورة الأنفال. سورة الأنفال هي سورة الحرب؛ سورةٌ تتحدث عن غزوة بدر، اللقاء الذي سماه الله تعالى يوم الفرقان، الذي انتصرت فيه القلة القليلة المنصفة المحقة على الكثرة الطاغية الباغية المجرمة. وكأنها براعة استهلال، إذ بدأ ليبين أن سرّ النصر إنما هو الإيمان، لذلك ماذا قال؟ : (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنفَالِ ۖ قُلِ الْأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ ۖ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ).


ليست الغنائم أمراً يستهدف من المعارك، إنما الهدف من المعركة هو إعلاء كلمة الحق. ولذلك عودوا إلى الهوية التي تحملونها، فرسّخوا معانيها في أفئدتكم. ماذا قال!: (إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) ارتجفت قلوبهم.. خافت قلوبهم تعظيماً لله U. وعندما يكون القلب معظماً لله هل يجرؤ على معصيته؟


الذين يريدون أمةً تصنع الانتصارات، فليس لهم إلا باب الإيمان، ومن باب الإيمان إلى الذكر الذي يعظّم فيه قلب الإنسان المؤمن ربه. وعندئذٍ؛ يهون غيره وتهون عنده التضحيات وترخص عنده الأرواح والأموال، ويمكن أن تقدم في سبيل الغاية السامية التي يسعى إليها كل التضحيات. والذين يريدون أمةً تتسم بالأمانة والصدق، وتترفع عن الخيانة والكذب، فليس عليهم إلا أن يوقدوا في قلوب أبناء أمتهم معاني الإيمان بالله وذكر الله. عين المراقب قد تغيب عنك وعدسة المراقب قد تتوقف عنك، ولكن مراقبتك لله U رصيدٌ لا ينفد وقوةٌ لا تغلب، ورصيدٌ يحقق فيك الأمانة والصدق والإقامة، سواء كانت عين المراقب موجودةً أم لا، وسواء كانت عين المراقبة موجودةً أم لا. أما عندما تكون المسألة تابعةً لعين المخلوق، فسرعان ما يمكن أن يتجرأ الإنسان على تجاوز تلك المراقبة، وتغدو تلك القيم التي يعتزون بها ويفتخرون بها سراباً لا قيمة له. أما عندما تكون مراقبة الله U متوقدةً في القلب، فإن هذا الإنسان يبذل التضحيات.. يتعفف عن المحرمات.. يسمو إلى القيم السامية.. يحقق المعجزات باستقامته وأمانته وعزيمته.


أيها المسلمون؛ عندما أرسلت كنوز كسرى إلى المدينة المنورة رأى عمر t ما أداه الجيش بأمانة رجلين أو ثلاثة إلى المدينة المنورة، دون أن يمسّ منها شيءٌ، نظر فقال: (إن قوماً أدوا هذا لأمناء) كيف أصبحت هذه الأمانة رصيداً مستقراً في القلوب؟ لو أنهم أخذوا ما أخذوا لما شعر أحد، ولكن الله U موجودٌ في قلوبهم. مراقبة الله  Uهي التي تردعهم وهي التي تدفعهم، لذلك كان الذكر يحيي القلب. والقلب هو القوة الرادعة والدافعة.. القوة الرادعة والدافعة في كيان الإنسان إنما هو القلب، ولذلك قال ﷺ: (ألا وإنَّ في الجسدِ مُضغةً، إذا صلَحَت صلَح الجسدُ كلُّه، وإذا فسَدَت فسَد الجسدُ كلُّه، ألا وهي القلبُ).


نعم؛ نحن بحاجةٍ إلى أمةٍ مؤمنةٍ ترخص عندها التضحيات، وتهون عندها المصاعب وتذلّ لها رؤوس الجبابرة. عندما نكون صادقين مع الله U. نحن بحاجةٍ إلى رصيدٍ من المراقبة الذاتية تعفّ عندها النفوس، وتسمو إلى المثل الحقيقية السامية أمانةً وصدقاً واستقامةً، فلا تفتنها مغريات ولا تضعف قناتها أمام كثيرٍ من التهديدات أو غيرها، لماذا؟! لأن مراقبة الله U هي التي توجه سلوك هؤلاء، وهي التي تردعهم عما لا يليق بهم.


عندما مرّ النبي ﷺ قافلاً إلى المدينة وصل إلى جبل جُمدان، على مقربة من المدينة المنورة فقال: (هذا جُمْدَانُ؛ سَبَقَ المُفَرِّدُونَ. قالوا: وَمن المُفَرِّدُونَ يا رَسولَ اللهِ؟ قالَ: الذَّاكِرُونَ اللَّهَ كَثِيرًا والذّاكِرَات). حديثٌ رواه مسلم.


الذين يكثرون من ذكر الله تعفّ أيديهم عما لا يحقّ لهم، وتعفّ ألسنتهم عن أن يؤذوا أو أن ينالوا ما ليس لهم حقّ به، وتعفّ نفوسهم عن المحرمات، وتسمو نفوسهم إلى التضحيات.. بماذا؟! بقلوبٍ مفعمةٍ بمحبة الله وخشية الله ومراقبة الله والحياء من الله U.


أسأل الله أن يجعلني وإياكم من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات.


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين.

تحميل



تشغيل

مشاهدة
صوتي