مميز
EN عربي

الفتوى رقم #54260

التاريخ: 29/01/2016
المفتي: الشيخ محمد الفحام

تربية الأبناء .. والعلاقة مع الآخرين

التصنيف: الرقائق والأذكار والسلوك

السؤال

السلام عليكم شيخي الفاضل محمد الفحام عندي امرين مختلطه بعقلي لا استيطع تميز الصواب من الخطأ فيهما وما الصواب اولهما في التربيه.. حين يخطأ احد الاطفال بامر ما ..مثلا شتم او ضرب او ترك صلاه او اي خطأ فما الطريقه الصحيحه للتعامل معه ابين له ان هذا الامر خطا ولا تفعله..ثم يعود اليه اعلم ان الضرب خطا لكن سؤالي عن المعاقبه ..مثل حرمان من لعبه ما او حلوى نزهه هل هذا الاسلوب صحيح ... الامر الثاني ماهي حدود العلاقة مع الآخرين لو تعطيني ترتيب معين او مختصر امشي فيه بحياتي ..

الجواب

وعليكم السلام ورحمة الله تعالى وبركاته وبعد؛ فإني لأسألُ الله تعالى تمامَ العافية لقلبك وضياءَ الحكمةِ لِلُبِّكِ, والسَّدادَ والرشادَ لكِ في القول والعمل. أوَّلا؛ إنَّ أمْرَ التعامل مع الأبناء يُعَدُّ من السهل الممتنع لا يُتْقِنُه إلا من نوَّر الله بصيرته وزكَّى طويَّته بحسن طاعته لربه, ومراقبتِه لخالقه, ومعرفةِ طرائق الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم عبر استيعاب مسالك شمائله لاسيما فيما يتعلق بالأطفال وتفاعله في التعامل معهم وكذا أقواله الهادفة . أختي الكريمة؛ تأملي معي كلامَه المبارك في توجيه الأبناء إلى العبادة: (مُروا أولادكم بالصلاة وهم أبناءُ سَبْعٍ, واضربوهم عليها وهم أبناءُ عشر, وفرقوا بينهم في المضاجع تجدي أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قد جعل تربية الأبناء ضِمْنَ مراحلَ ثلاثةٍ, فالأولى؛ مرحلةُ ما قبل التمييز, والثانية؛ مرحلة ما بعد التمييز وهي مرحلة التأسيس, والثالثة؛ مرحلة مقدَّمات البلوغ, وتجدي أنه عليه الصلاة والسلام لم يعوِّل في الأمر بالعبادة إلا في تمام السابعة وهو أوَّلُ سِنِّ التمييز ولا تخفى هنا الحكمة النبوية الراشدة في ترك السنوات الأولى من غير أمْرٍ أو إلزام, وبقليل مِن التأمُّل والنظر ندرك أنه صلى الله عليه وسلم أراد أنْ يجعلَ منها مرحلة التحبُّب لتوطيدِ العلاقةِ بين الولد ووالديه عبر ترغيبات منهجيَّة تُنَشِّطُ الجوارح وتُفرِحُ القلب وتَرْبِطُه بهما رَبْطاً مُحْكَماً تُعينُ المتبوعَ على كسبِ قلبِ تابِعِهِ ذلك أنَّ الإلْفَ بينهما خيرُ سبيل لبلوغ المرام وتحقيق المراد. وأما المرحلة الثانية؛ فهي مرحلةُ التأسيس التي حَدَّ لها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ثلاث سنوات _أي من السابعة إلى العاشرة_ ومعلومٌ بيقين أن تلك المدة كافية للتَّأسيس السليم والتوجيه السَّديد. وأما المرحلة الثالثة؛ فهي مرحلةُ البناء وهذه المرحلة من أخطر المراحل وأهمها إذ أنها تحتاج إلى حِكْمةٍ حازمةٍ وهِمَّةٍ راشدةٍ وتوجيهٍ عليمٍ لذا وجَّهَ السيد الأعظم صلى الله عليه وسلم إلى مسألةِ الحزم في ذلك بِلُمْعَةٍ محدودة وهي الضرب على الضرورة, مع مُلاحَظَة دقة قوله عليه الصلاة والسلام (واضربوهم عليها..) أنَّ ذلك لا يكون لأجل الصلاة لا لشيء سواها, فلا يجوز _شرعا_ الضربُ تشفيّاً أو انتقاماً هذا أولا, ثانيا؛ أن يكون بيدٍ لا بخشبة كما يقول الفقهاء, وأن لا يزيد على ثلاث ضربات, ثالثا؛ أنْ لا يكون على المقاتل كالرأس والرقبة والوجه والظهر والبطن, رابعاً؛ أنْ يُحْصَرَ بالضرورة القُصوى كعلاج أخير, خامساً؛ أنْ يكون الوالدان مهيئين بالثقافةِ الدينية اللازمة عبر التلقي الصحيح من أهل العلم, مع الصحبة النافعة لأهل الإيمان والتقوى. هذا؛ وأنصحُ بقراءة كتاب الشمائل النبوية لسيدي الفقيه المحدث الإمام الشيخ عبد الله سراج الدين, وكتاب تربية الأولاد في الإسلام وهو عنوان لأكثر من عالم من علماء بلادنا الشاميَّة. وفي ختام الجواب أقول: إنَّ ما ذكرتيه مِن أسلوب مع ولدِك بعضٌ منه سديدٌ وسليم إن صحبَه سلامةُ النية, لكن حذاري مِن كسر الخاطر ذلك أنَّ المنعَ المنهجي لا يكون إلا بريداً للعطاء كبديل تَعِدين به بموعود الاستقامة فلو هدّدتِ ولدَك بمنعه من شيء قابلي ذلك بوعد العطاء إن استقام. الأمر الثاني؛ أختي الكريمة؛ الحبُّ حقيقةٌ طيفُها واسع ودوحاتُها غنَّاء, ورياضُها غنيَّةٌ, وثمرها يانع نافع, هذا إنْ فهمنا جوهرَ المدلول, فالإسلامُ قد جعل الحبَّ ضِمْنَ نظامٍ أصليٍّ وفرعي, فالأوَّل؛ حبُّ اللهِ ورسولِه صلى الله عليه وسلم, والثاني حبٌّ في الله تعالى وهذا الأخير نافذة للأوَّل فإنَّ حُبَّ اللهِ تعالى ومُصطفاه هو ما عليه المعوَّل, فإنْ أَحْبَبْنا الغَيرَ من أَجْلِهِ سبحانه هُدِينا إلى قطاف ثمرة الحب ألا وهي المعرفة الإلهية, وجميلٌ أنْ لا نَغْفُلَ عن حقيقةِ دعوةِ ذلك الحبِّ الأزلي السامي أنها من يوم (ألستُ بربكم قالوا بلى) كما يشير الشاعر العارفُ بربه؛ مِن يومِ أَلَسْتُ تَعارُفُنا وأعوذُ به أنْ أَجْهَلَهُ فَحُبُّ الأَشياءِ عُموماً ينبغي أن لا يكون إلا مِنْ أجلِ المنعمِ بها سبحانه وذلك لإظهار الحكمة من وجودها أنَّ الأدبَ مع النِّعم عل نظام المنهجية النبوية الراشدة أدبٌ مع المنعم وهنا حدِّث ولا حرج عن جليل الفائدة من ذلك, وعليه؛ يُعلم أنَّ التعلُّق بالنِّعم لأجلِ النِّعم مدخلُ إغلاقٍ على العبد ومجالُ تِيهٍ له في بيداءِ الجفافِ العاطفي لأنه مُدَمِّر, أما حبُّ النِّعَم لأجل المنعِم بها سبحانه فهو دخولٌ في حصن آمن مِنٍ هوى النفس الأمارة بالسوء لأنه معمِّر. من هنا ندرك معنى قول السيد الأعظم في الصحيح؛ (ثلاثٌ مَن كُنَّ فيه وجَد حلاوةَ الإيمانِ أنْ يكونَ اللهُ ورسولُه أَحَبَّ إليه مما سواهما, وأنْ يحبَّ المرءَ لا يحِبُّه إلا لله, وأنْ يَكْرَهَ أنْ يُقْذَفَ في النار بعد إذْ أَنْقَذَهُ اللهُ منها) عندها يَغيبُ المحبُّ في ضياءِ الحق والحقيقة المجرَّدة , ويُعافى مِن ظلمة الحظِّ, ويُعاذُ مِنَ الحجاب الظُّلماني, ولا يعود هناك مكان لإلغاء أحد إذْ يغدو المحبُّ على الحقيقة طبيبا قَلبياً, لا قاضياً, ويُصبح محبَّاً الخيرَ لكل العباد تفاوتت النِّسَبُ نفعاً وضراً, وأقول بصراحة بل يغدو المحبُّ على المستوى السامي من منهج الدِّلالة على الله وهادياً إليه وموضِّحاً سبيله, ومثمراً للحكمة المحبوبة لدى الحق سبحانه الكامنة في طيِّ البيان الإلهي القائل: (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ. وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ. وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ. إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ) (والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه, فإن لم تكن تراه فإنه يراك) كما في الصحيح عن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم. ثم اعلمي أنَّ مَن يحبُّ مولاه يُلْحَظُ بعنايتِه ورعايتِه لأنَّه يُخَصُّ بأنوار ظلِّ عرشه العظيم كما الإشارة في بيان الكلام النبوي من حديث السبعة؛ ؛ (سبعة يظلُّهم الله في ظلِّه يوم لا ظلَّ إلا ظلُّه...ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرَّقا عليه..) فاحرصي على استخراج مكنونِ الفطرة السليمة بافتقارك إلى المحبوب الأول وكثرة رجائكِ إياه يكرمْكِ أولَ ما يُكْرِمُكِ به بحسن الظن بعباده مع عدم الانشغال بهم وذلك بردِّ قلوبهم إلى جامعِ القلوب علّامِ الغيوب عزَّ وجلَّ. وفي الختام دونك هذا الدعاءَ المأثور؛ (اللهم ارزقني حبَّكَ وحبَّ من يحبُّك, وحبَّ عمل يبلِّغني حبَّك, واجعلْ حبَّك وحبَّ نبيِّك صلى الله عليه وسلم في قلبي فوق كلِّ حب, وفوق حبِّ الماء البارد على الظمأ. اللهم؛ وما رزقتني مما أحب فاجعلْه قوَّةً لي فيما تحبّ, وما زَوَيْتَ عني مما أُحب فاجعلْه فراغاً لي فيما تحب) آمين يارب العالمين. مع الرجاء بالدعاء.