مميز
EN عربي

الفتوى رقم #52400

التاريخ: 26/02/2015
المفتي: الشيخ محمد الفحام

حول حكم الموسيقى وأثرها على القلب

التصنيف: الرقائق والأذكار والسلوك

السؤال

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، سيدي الشيخ محمد الفحام، رفع الله مقام حضرتك مع كل طرفة عين. سامحني إن كان السؤال مكررا، لكني صدقا لم أجد حدود واضحة لما يجب الوقوف عنده في هذه القضية: مسألة المعازف والموسيقى. ما حُرم من المعازف (كالأوتار) تكاد لا تخلو منه أي قطعة موسيقية، وإني شخصيا أصل إلى حال من الرقة الروحية مع الله تعالى لمجرد سماعي لقطعة موسيقية مع التأمل في مشهد ما، حيث كأن الجمل الموسيقية تتحول إلى حديث مباشر من السماء مملوء بالرقة معاتباً لي على تقصيري، وتنقلني من العالم المادي بما فيه إلى فضاء من الأسرار حيث كأني أحس بأن اللطيف سبحانه مشتاق إلى ولوج عبده ذاك لعالم.. عفواً سيدي على الاستطراد، لكني ظننت أهمية التعبير عن أثر (ولو جزئي) للموسيقى ضمن السؤال، واسأل الله أن يكون ما كُتب خاليا من التكلف المزعج. أليس كل ما يقرب العبد من ربه بصدق داخلا في نطاق القربات المُثاب عليها؟ وأليس كل ما يسهم بترقيق القلب والصحوة من الغفلة مطلوبا (بالمعنى الشامل)؟ لعل قصور الفهم يوهمني بمعنى التناقض، أرجو منكم المساعدة. اعتذر عما أخذت من وقتكم سيدي، أحبكم بالله، وأرجو أن يُكتب لي لقاءكم في الدارين. السلام عليكم ورحمة الله

الجواب

وعليكم السلام ورحمة الله تعالى وبركاته, وبعدُ أخي العزيز؛ فجزاك الله عني خيرَ الجزاء على دعائك, وإني لأرجو مَن تحابَبْنا فيه سبحانه أنْ ينفحَنا بنفحاتِ الحب الخالص على أثير التسبيح الملائكي مُحلِّقاً بأرواحنا ورادّاً إياها إلى موطنِها بشوق العهد القديم, وأَحَبَّكَ الله الذي أحببتني فيه, وإني لأرجو أنْ أكون عند حسن الظن, وأن يسترني في الدارين. أقول سيدي؛ إنَّ لكلامك وقعاً جليلا يستكين له القلب, وجَرْساً آسراً يطرق مسامع الروح يألفه ذو الشفافية العالية من العُبَّاد, فلا يجذب إلى معناه ُّإلا كلُّ ذائقٍ مدركٍ حقيقةَ السرِّ المتضمن جمالَ جوهره السليم لكن هل كل الناس يدركونه؟؟ لذا كان الوقوفُ على قيد التحريم سداً لذريعة الفساد, ذلك أنَّ شيوعَ فسادِ الذوق بتَلَبُّس المعصية مع السماع في هذا الزمان أصبح ظاهراً للعِيان لا يحتاجُ إلى استجلاء كما تعلم. فعَوداً بكَ إلى فتوى العلّامة العِمادي أنه لما سئل عن الآلات والسَّماع قال: "قد حرَّمَه من لا يُعتَرضُ عليه لِصدق مقاله, وأباحه من لا يُنْكَرُ عليه لقوَّةِ حالِه, فمَنْ وَجَدَ في قلبه شيئاً من نور المعرفة فليتقدَّم, وإلا فرجوعُه عما نهاه الشرع الشريف _أي من إرادة اللهو_ أسلمُ وأحكم والله تعالى أعلم". يشير رحمه الله تعالى إلى أنَّ أصل الجواز في قوة حالِ السامع ببعده عن علة التحريم أنَّه إذا سَمِعَ سَمِعَ بِسَمْعِ البصيرة لا الحسِّ إشارةً إلى تفاعُل الروح بأثر من آثار الجمال إذا حنَّت إلى أصلها فهو حنين إلى الوطن الأصلي في علياء عطاء ذي الجلال قبل الهبوط من رياض الجنان إلى عالم المثال الصاخب, وعليه؛ فمن تمتَّع بمثل هذا الحال لا يسمع من الوتَر بل مِن الوِتْر جل جلاله وشتان شتان!! فَفَرْق كبير بين من يعزِف طرباً وحسب, وبين من يصغي للأثر المؤثِّر حضوراً بالمذكور القائل: (وإنْ مِنْ شَيءٍ إلّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) وهنا أقول موقناً: بأنَّ صاحبَ مثلِ هذا الحال يَغْدُو هو النَّغَمَ على الأَصل الذي إذا نَظَرَ جَذَبَ, وإذا تَكلَّمَ سَحَرَ, وإِذا أَنْشَدَ أَطْرَبَ, وإذا وَعَظَ هيِّجَ, أجل؛ فيغدو نوعاً آخر يأْسِرُ ولا يُؤْسَرُ, ويؤثِّر ولكنْ بغير المتجلِّي لا يتأثَّرُ, وقديماً قيل: "الثكلى لا تحتاج إلى نائحة" ولعلّك تدرك الآن قصد الشيخ الفقيه العارف سيدي الشيخ عبد الغني النابلسي في تخميسه أبيات الشيخ محمد البكري عليهما الرحمة والرضوان: حدِّثْ عن الوِتْر أَيُّها الوَتَرُ مَن فاتَه الخُبْرُ سَرَّهُ الخَبَرُ فقال رحمه الله تعالى: بِنَغْمَةِ العُودِ لاحَ لي أثرُ أَفْهَمَني أنَّ كُلَّنا صُوَرُ فقلتُ لما تَبَدَّتِ العِبَرُ حدِّث عن الوِتْرِ أيُّها الوَتَرُ من فاته الخُبْرُ سَرَّهُ الخبَرُ ثم اعلم أخي الحبيب؛ أنَّ النَّغَمَ مُجَرَّدُ النَّغَمِ _أي مايُدَنْدِنُ به كلُّ أحَدٍ_ لايدَ للبشر بتأصيله فهو مع الفطرة يَسْرِي لِعْهِدِهِ القديم, فلو أَصْغَيْتَ لمشتاق لوجدتَه يَصْبُو إلى مشوقِه بنغم الصبا الذي يُقالُ له نَغَمُ الغرام, ولو أصغيتَ لِأُمٍّ تُدَنْدِنُ لِوَلَدِها لوجَدْتَها تحِنُّ عليه بنغم الحجاز الذي يقال له نغمُ الحنين, وهكذا فالأصل من داخلك كلما صفا صبا وكلَّما اشتاق حنَّ, فذو الصوت الحسن على ألق المعرفة لايحرِّكُ البشرَ وحَسْب بل حتى الحجر. وفقني الله تعالى وإياك إلى أصول المعرفة المحركة لمشاعر الروح التي خُصَّت بخصائصَ من خالقها فقال فيها سبحانه: (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِي وَمَا أُوتِيْتُمْ مِنِ العِلْمِ إِلّا قَلِيْلَاً) خصني بدعواتك أيها المحب الطيِّب بارك الله بك