الفتوى رقم #46755
التاريخ: 17/06/2014
المفتي: الشيخ محمد الفحام
معنى الشطح .. والموقف السليم تجاه أربابه
التصنيف:
الرقائق والأذكار والسلوك
السؤال
اشكر جزيل الشكر الشيخ محمد الفحام على رده للفتوى السابقة وليجعلها الله في ميزان حسناته ولكن ماقد حيرني كثيرا هو لفظ الشطح الذي يظهر في كثير من كتب المتصوفة و الذي اجهل معناه لذا من فضلكم ما معنى كلة الشطح اصطلاحا ولغة ؟ وماحكمها ؟
الجواب
أخي العزيز ولك أضعافٌ مضاعفة من دعائك لي إنْ شاء الله تعالى وإني لأرجوه سبحانه أنْ تُلامِسَ أرواحُنا حقائقَ التربية السلوكية بالفهم عن مُشَرِّعِها الأول رسول الله صلى الله عليه وسلم فننطلق منطلق السموِّ على جذور متينةٍ وفروعٍ سليمة تسمَقُ أغصانُها بجمالية الإثمار على القبول، وجلالية التمكُّن على التحقيق.
وقبل أنْ آتيَ على معنى الكلمة أقول: إنَّ الأصلَ في سبيل الوصول عند أهل الله هو صحةُ المنهج وسلامةُ العقيدة فصحَّةُ المنهج بتطبيق الأوامر والنواهي كمظهرِ التزام بأحكام الشرع الحنيف، وسلامةُ العقيدة لجوهر الباطن في طهارة القلب على حدِّ قوله تعالى: (يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُون إلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) ففي ذلك تحصينٌ للقلب بمقام المراقبة والإخلاص كمفتاح أساس للوصول.
ثم إنَّ الكلام عن فصول ذلك المنهج يطولُ غير أنَّ ما يتَّصل بسؤالنا هو أنَّ العبد إذا عظُم شهودُه بلغ مَبْلغاً رفيعاً من الصلة بالله عبر مراحل السلوك والإرادة وربما في تضاعيفها يغيب عن نفسه بربه فينطق بكلام مردود على الظاهر بسبب غلبيةٍ تعتريه فيعذر بتلك الغلبية وتخصُّه بذاته ما دام على غلبيته ولا يجوز تقليدُه ولا اعتمادُ ما يظهر منه كأصلٍ من أصول الطريق بل يُعَدُّ عرضاً زائلاً ولو بعد حين لكن قد تطول مدة غَيْبَتِه وقد تَقْصُر وقد لا يشعر بها حسب العناية الإلهية والتوجيه لذا قالوا فلا بد من المرجعية إلى المربي الحقِّ كي تكون نُقْلَتُه ومراحلُه على اتزانٍ ورشَد ويُعاذَ من افتراس الشيطان وتخليطِه. من أجل هذا لم يعتبر مَن يقع في الشطح مُرَبِّياً لأنه لا يصح الاقتداء به، بل صاحبَ حال مخصوص نُسَلِّمْ له حالَه بحسن الظن ولكن لا نقتدي به. والآن خذ تعريف الشطح؛ في اللغة: الحركة شطح يشطح إذا تحرك يقول قائلهم: عبارةٌ مستغربة في وصفِ وَجْدٍ فاضَ بقوتِه وهاجَ بشدة غَلَيانه وشدته، فالشطح لفظةٌ مأخوذةٌ من الحركة لأنها حركة أسرار الواجدين إذا قَوِيَ وجدُهم فعبروا عن وجدهم ذلك بعبارةٍ يستغربها سامعوهم أي فتغدوا مشكلةً على مفهوم سامعِها إلا من كان من أهلها. هذا؛ وأدقُّ تصوير لهذه المسألة ما قرأته لسيدي الشهيد السعيد في كتابه النافع الإسلام ملاذ كل المجتمعات الإنسانية ص209 قال: "وربما وصل أحدُهم ومن خلال التدرج في هذه المراتب _أي من الأحوال كالفناء وغيره_ إلى ما أسمَوْهُ بوحدة الشهود إذ يفنى السالك بالمكوِّن عن الأكوان وبرؤية مُوجده عن ملاحظةِ وجودِه وربما اندفع في غمرة هذا الاصطلام إلى النطق بكلماتٍ لا تنضبط بموازين العقل والمنطق ولكنها تنبعث من فيح مشاعره الوجدانية التي فنيت عما سوى الله...
وقد اتفق العارفون على أنَّ حال الصحوِ أفضل وأسلم حيث يكون العقل والوجدان على وفاق. ومع ذلك فلا جُناح على من وقع في حال الفناء ووحدةِ الشهود كما يقول ابن تيمية رحمه الله _في فتاواه_ 10/241 في مثل هذا المقام يقع السكر الذي يُسقط التمييز مع وجودِ حلاوة الإيمان كما يحصُل بسكر الخمر وسكر عشيق الصور فكذلك قد يحصل الفناء بحال خوف أو رجاء كما يحصل بحال حب فيغيب القلب عن شهود بعض الحقائق.
لكن أعود فأؤكد أنَّ هذا مخصوص بصاحبه لا يُتعدى ولا يُتَخَطى ولا يدَّعَى لذا قالها سيدي الشهيد السعيد فلا يجوز الاقتداء بهم لمن كان في حالة صحوٍ ولا حمل كلامهم وأفعالهم على الصحة بل يجب النظر إلى ذلك على أنها شطحاتٌ يُعفى عنها لأهل الأحوال والمواجيد الصحيحة ويؤاخذ بها كلُّ من ردَّدَها تشبهاً أو أيَّدَها عقلاً ممن لم يكونوا في مثل تلك الحال.
بارك الله بك وأسعدني وإياك بمعرفته وصفاء السَّيْرِ سلوكاً في طريق حقائقِه وجعلنا جميعاً من الربانيين على الأمر العُلوي القائل: (وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ) آمين, ولا تنسَ أن تخصني بدعوة صالحة في ظهر الغيب.