الفتوى رقم #46686
التاريخ: 17/06/2014
المفتي: الشيخ محمد الفحام
الدعوة البرهتية والجلجلوتية وعلاقة التصوف بالسحر والجن
التصنيف:
الرقائق والأذكار والسلوك
السؤال
السلام شيخنا الفاضل ورحمة الله وبركاته عليك ما حكم قراءة ما يسمى بالدعوة البرهتية والجلجلوتية وهل كما يقال انها تنسب لسيدنا الامام علي كرم الله وجهه والاسماء السريانية باعتبارها كاسماء لله سبحانه وتعالى او كرياضات روحية وهذا ما اتخذه عدد كبير من اهل التصوف ومارسوه وهل لهذا علاقة بالجن او السحر او بكرامات بعض الاولياء نرجو التوضيح والتفسير لان هذا الان مسيطر على مجمل الصوفية واصبحنا نشاهدها في جميع اوراد الطرق حتى اني شاهدتها في كتاب الاوراد القادرية للسيد الجيلاني رحمه الله
الجواب
عليكم السلام ورحمة الله وبركاته, وبعدُ سيدي العزيز؛ فإنه لا عِلْمَ عندي بما ذكرتَ وسألتَ, ولا دليلَ لدينا عليه لاسيَّما في مسألة الإلزام ذكراً ودعاءً بغير الحرف العربي خاصة أسماء الله الحسنى التي وردتنا عن الصادق المصدوق بلسان عربي مبين, وأنَّ فَهْمَ معناها وذكر الله بها والدعاء مفتاحُ دخولِ الجنان من غير أدنى شك, وهي حق الجميع.
وأما ما يُسمى بالرياضات؛ فعبر ما ذكرتَ هو سبيل ضيِّقٌ جداً, بل وبعيدٌ عن مفهوم الرياضات السليمة المصطلح عليها بالمجاهدة المشروعة في البيان الإلهي والذي كان عليه النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم وأصحابُه الكرام رضي الله عنهم, والتي هي إبعاد النفس عن مهاوي الرعونات, وأطرُها على صراط الحق بالمعاملات, واستقامتُها على الطريق المطلوب بأدب العبودية بين يدي مقام الربوبية بالاستغراق في الآداب والتوجُّهات على مفهوم معنى قوله تعالى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) ثم إني أَلْفِتُ النظر _تحذيراً_ إلى مفهومٍ مغلوطٍ تعلَّق به البعض من السالكين وهو ربطُ السلوك بمُشتهى الرتبة أي أنك لو استعلَمْتَ قَصْدَهُ لقال: إنما أريد بذلك أنْ أكونَ وليا يُشارُ إليه بالبَنان, ولا يصح أنْ يكون هذا شرطاَ في السلوك ذلك أنَّ صاحبَه معلولٌ مريضٌ بشهوة الظهور. لأنَّ القصد من السلوك إنما هو المحافظة على القلب السليم, وإحاطتُه بذلك المنهج النبوي القويم للوصول إلى المأمول الأسمى وهو المعرفة على ميزان قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) وأما وصف العبد نفسَه بالولاية فلا ارتباطَ بينه وبين عبادته وإلا لدخل في باطن الإثم, اللهم؛ إلا إذا وُصِّفَ من قبل غيره على ميزان العلم تعريفاً أنَّ الوليَّ مَن تولَّى أوامرَ الله تعالى ونواهيَه على الأدب والحياء, فيتولاه الله تعالى بالعناية والرعاية, وكما يقول أهل النظر
ليس من يقطع طُرُقاً بطلا إنما مَن يتقي اللهَ البطل
وخلاصةُ القول أنَّ سلامة السلوك في طريق الله تعالى في سلامة العقيدة والمنهج, فمِن محفوظ أقوال الإمام الجيلاني قُدِّسَ سرُّه: "كلُّ حقيقة لا تَشْهَدُ لها الشريعة فهي باطلةٌ", ولو رجعنا إلى ترجمته لوجدنا أنفسنا أمام قامة جليلة من قامات العلم والمعرفة التي لا يُشق لها غبار جعلنا الله تعالى على قدمه ونور أسوته.
وأما ما ذكرت من الصلة بالجن, أو عمل السحر, فلا صلة بينهما وبين منهج الطريق على الإطلاق ومن ادعى ذلك فقد أبعد النُّجعة وضَلَّ عن السير شاء أم أبى, كيف وكِلا الأمرين محظور شرعاً, لأنَّ الداخلَ في عالم الجن مُقْحِمٌ نفسَه فيما لا يعنيه ويكفي ذلك علامةً على إعراضِ الله عنه ففي بعض الآثار (من علامة إعراض الله عن العبد اشتغالُه بما لا يعنيه) وفي الحديث المشهور: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) والداخل في غير عالمه عديمُ الأدب بين يدي مقام الربوبية راغبٌ في مشتهى النفس التي هي الحاجبُ الأساس عن الوصول, لذا كان من الضرورة كَبْحُ جِماحِها ومخالفتُها.
وأما السحر فكيف ينتظم مع أدب العبودية وهو كُفرٌ يُخَلِّد صاحبَه في النار بوعيد الصادق المصدوق: (حدُّ السحر ضربة بالسيف) والحكمة من ذلك الحزم في الحُكْمِ هي قَطْعُ دابر العلاقة مع الشياطين لما فيه من الإضرار الكبير قال تعالى: (وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَـكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ)
وأما فك السحر فإنه لا يُفَكُّ بتعلُّمه, والعملُ به, بل بالعمل بنصوص الشرع الحنيف الواردة في هذا الشأن من الرقى الشرعية والعلاجات النبوية.
وأما خرقُ العوائد فلا تُعَدُّ كرامةً في حق صاحبها إلا إذا تبرأ مِن حَوْلِه وقوَّته وعمله ولم يدَّعِها أو يَتَحَدَّ بها أو يطلبْها , ولم تشغلْ قلبَه عن أساس ما خُلِقَ له وهو العبادة الخالصة, وإلا فلو تحققت وهو على عكس ذلك لكانت استدراجاً ابتداءً, وخِذْلاناً انتهاءً إلا إذا أدركته العناية الإلهية بتصحيح المعاملة مع مقام الربوبية. ثم إنه من المعلوم أنَّ الكراماتِ بخرق العوائد ليست شرطاً على صحة السلوك, بل الاستقامة فهي عينُ الكرامة لأنها تنبي عن خضوع العبد وإخباتِه بين يدي مولاه ومن منقول كلام السيد الجيلاني رضي الله تعالى عنه "طِرْ إلى الله تعالى بجناحي الكتاب والسنة ادخُل على ربك ويدُك بيدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم"
هذا؛ وإنَّ من أسس الطريق وسلامةِ نهجه وضوحُ أصوله وبيانُ مطالبه, لأنه ما كان حِكراً على أحد يوما من الأيام ذلك أنَّ القاسم المشترك فيه بين الخلق واحدٌ ألا وهو معرفة الله تعالى عبر أمره ونهيه بوحي حبيبه صلى الله عليه وسلم الذي كان يخاطب بأصول الإسلام كمنطلق وأساس الجميعَ, وإنما كانت تعرُجُ أرواحُهم في معارجِ المعارف بصدقِهم وإخلاصِهم, وإلا فلو كانتِ الثوابتُ عبارةً عن طلاسمَ ومجرد رموز لكان مصدرَ تشويش, ولظُنَّ بالإسلام سوءاً, ولأُدخل فيه ما ليس منه, ولَعُدَّ الطريق _عند من يجهل حقائقه_ دخيلا على الدين في حال كونه مِن أصول الدين والذي قاعدته؛ (أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك).
وإني لأسأل الله تعالى أن يذيقنا طعم الوصول إليه, ويحقِّق فينا الصِّدق في عرض الحال عليه, ويُعيذَنا من العوائق, وشغل العلائق إنه خير مأمول, وأرجى مسؤول ولا تَنْسَنِي من دعوة صالحة بارك الله بك ورزقك الإخلاص مع قطف ثمراته في الدنيا والآخرة, وعافاني وإياك من شرِّ النفس ومشتهاها, وشرِّ الشياطين ومبتغاها, ومن اقتراف المعاصي وهواها, ومن شهوة أن نَجرَّ سوءاً أو إساءةً إلى أحد.