الفتوى رقم #45692
التاريخ: 08/04/2014
المفتي: الشيخ محمد الفحام
يدرك من ذاق طعم العبودية الجانب المشرق من ابتلاء الله له
التصنيف:
الرقائق والأذكار والسلوك
السؤال
سؤالي للشيخ محمد الفحام اطال الله في عمره وجزاه كل الخير و سؤالي هو عن الحديث "أشد الناس بلاء الأنبياء فالصالحين فالأمثل فالأمثل" هل معناه ان االانسان عند اقترابه لله يصبح عرضة للبلاء اكثر اي اذا كان الانسان صالح اصابه البلاء لا محال هذا الحديث أخافاني مع ثقتي الكبيرة بالله و قدرته على حفظنا من كل بلاء و هل يمكن النجاة من ذلك اذ انني دائمة الدعاء بأن يجعلنا الله من عبيد احسانه لا من عبيد امتحانه و سؤالي الثاني انني و الحمد لله دائما ادعو الله وكلي ثقة بالاجابة ولكن احيانا يجول في خاطري بعض الناس الصالحين الذين اصابهم البلاء ولم ينكشف عنهم فلماذا لم يستجيب الله لهم انا واثقة ان الله كريم وان هذا من وسوسة الشيطان ولكن اريد جواب لكي اقطع على نفسي هذه الشكوك الباطلة وازيد يقيناو ثقة بالله واعتذر جدا عن الاطالة و اعطاكم الله من كل ما تمنيتم امد في عمركم
الجواب
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمدٍ رسول الله مُعَلِّمِ الناس الخيرَ, وبعد؛ فلكَ يا أختَ الإيمانِ طولَ العمر مع بركة العمل وتمام العافية إنْ شاء الله تعالى
أختي الكريمة؛ لا شك أنَّ سؤالَك جديرٌ بالاهتمام وهو من الجلال بمكان لكنَّ الجوابَ مصدرُ المقامات في نظام الجمال بعناية الله وإذنه سبحانه.
بدايةً؛ لا بد مِن عَرْضِ نَصِّ الحديث بالكامل يقول صلى الله عليه وسلم فيما أَخْرَجَهُ البخاري وغيره: (أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلباً اشتد بلائه، وإن كان في دينه رقَّةٌ ابتلي على قدر دينه, فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة)
وفي رواية الحاكم؛ (أشد الناس بلاءً الأنبياء, ثم الصالحون...) الحديث, فبتدبُّرٍ يسيرٍ لحروف الحديث نجد أنَّ البلاءَ مقدورُ المولى سبحانه على كلِّ أحدٍ, والأصلُ في ذلك قوله تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) لكنَّ حظَّ العبدِ منها ما بَوّأَه الله تعالى _لما سَلِمَتْ عقيدتُه بسلامةِ قلبِه_ مِن سُمُوٍّ بالقُرب وشَرَفِ التَعَرُّفِ لكونه عند الله تعالى قُدوةً, وكلُّنا يحفظُ قوله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) ولكنْ ينبغي الانتباهُ إلى أنَّ المرء لا يملك القُدرة على الائتساء والاقتداء إلا إذا كان يرجو اللهَ و يخاف اليومَ الآخر أي يوم الحساب ويذكر الله تعالى كثيراً لأنَّ ذلك هو المنهجُ الهادي للتماسُك والصبر ثم الرضى ثم الإثمار فصاحبُه داعيةٌ إلى الله تعالى بحالِه قبلَ قالِه, وبشأنِه قبل مادَّتِه, ومعرفته قبل جُهده.
ثم اعلمي أخت الإيمان أنَّ البلاءَ ليس مقصوراً على أهلِ الخصوصية دون غيرهم بل على الكلِّ, ولكنْ كلٌّ حَسَبَ طاقتِه وإيمانِه, وليس مقصوراً على المرضِ الحسِّي العُضوي, بل هو أنواعٌ مرتَّبةٌ بالحكمةِ الربانية التي تعودُ بالنفع على العباد وبشتى أصنافهم, فمِن البلاءِ همُّ الأمة, ومنه الفقر, ومنه إيذاء الخلق, ثم التعويل في الكلِّ على النتيجة النافعة أخروياً, فهو اختبار يُبرز مقام الرضى لدى المقربين مقاماً داعماً صلاتِ الخيرِ على مطالب الدنيا والآخرة.
إذن فالبلاء أنواع وابتلاءُ الحقِّ عباده به حكمةٌ وإيجاب, لكن لا يدرك ذلك المعنى إلا مَن ذاق طعم العبودية الخالصة لله تعالى, وبذلك يُعلم أنَّ الصلاح والتقوى ليس باباً من أبواب العُرضة للبلاء, ولكنْ إشارة إلى أنَّ أعظمَ الناس صبراً على البلاء هم الأنبياء ومَن على قدمهم, وأنَّ شِدَّةَ البلاء عليهم لا تزيدهم إلا صبراً ورضىً واحتساباً لكونهم أسوةً حسنة, لذا كانوا أعظمَ الناس أجراً, وأعلى الناس قدراً, وأمضى الناس استقامةً, وأحسنَ الناس مظهراً, ففي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: دخلتُ على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوعَكُ, فقلت: يا رسولَ الله إنك توعكُ وعكاً شديداً قال: (أجل؛ إني أُوعَكُ كما يوعك رجلان منكم) قلت: ذلك أن لك أجرين؟ قال: (أجل؛ ذلك كذلك, ما من مسلم يصيبه أذى شوكة فما فوقها, إلا كفر الله بها سيئاته, وحُطَّتْ عنه ذنوبه كما تَحُطُّ الشجرة ورقها) فَهُمْ أقربُ إلى عافيةِ الله تعالى من غيرهم ذلك أنَّ جوهر العافية عندهم إنما هو بسلامة القلب وصلتِه بحضرة الرب. رأى سيدُنا عيسى عليه السلام يوماً مريضاً يتألم فدنى منه ليمسحَ بيده الشافية عليه فسمعه يقول: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلى به كثيراً من خلقه, فقال له سيدنا عيسى عليه السلام: فأيُّ شيء لم يبتلِك الله تعالى به مما ابتلى به غيرَك؟ فقال: أنْ لم يَنْزِعْ مقامَ الرضى مِن قلبي, فَسُرَّ به سيدُنا عيسى أيَّما سرور, ثم مسح عليه بيده الشافية بإذن الله فقام معافىً وغدا من حوارييه.
وعليه؛ فكثيراً ما يكون البلاء آنياً ولله في تعيين زمن العافية حكمة جليلة كما ابتلي سيدنا أيوب عليه السلام ثم عافاه الله تعالى معافاةً تامةً, وابتلى السيد الأكرم رسولنا الأعظم صلى الله عليه وسلم وفي مستهل سورة العنكبوت قوله تعالى: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ. وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) أي؛ أظَنَّ الناس إذ قالوا: آمنا, أن الله يتركهم بلا ابتلاء ولا اختبار؟
هذا؛ وهنا أمرٌ جليلٌ ما ينبغي أنْ يغيبَ عنا هو أدبُ أولئك الكرام حينما يتلبَّسون بالبلاء من ربِّ الأنام أنهم يشهدون المتصرفَ سبحانه بالأدب لنيلِ الأرب فيجدون ما ابتُلُوا به عينَ العافية. فيا أختي الكريمة؛ لا تتوقفي عن الدعاء والرجاء, ولكنْ بشرطه المقرون في الآية الكريمة: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) أنه في لأصل عبادةٌ بل هو مخُّ العبادة, أي؛ فهو عبودية ووفاء, قبل أن يكون مطالبَ ومكاسب وعطاء_ وإن كان الطمع بعطائه سبحانه مشروعاً_ غيرَ أنَّ الولوجَ إلى محراب العبودية الصافية من أجل أنْ يرجعَ العبدُ بتُحف العطايا العُلْوِيَّة فإنه شتان شتان بين العطاء الجزئي, والعطاء الكلي, والعطاء الدنيوي, والعطاء العُلوي, فإن هذا لأخير هو عينُ جوهر المعارف التي يعيش العبدُ أُنْسَ العافية بها, لذلك فالدعاء على هذا المستوى من الفهم يُحَقِّقُ الثمار المرجوة منه على الكلِّ لا الجزء, وعلى العموم والشمول.
ثم إني معكِ في أننا عبيدُ إحسان لا عبيدُ امتحان بل لا نَمْلِكُ ادِّعاء التحمُّل, وإنَّ من محبوب الله تعالى أنْ نسأله دائماً العفو والعافية في نظام شعورنا بضعفنا بين يدي قوته, ونَقْصِنا بين يدي كمالاته, وفاقَتِنا بين يدي غناه. وما أجمل توجيه المصطفى صلى الله عليه وسلم الأمةَ إلى حكمةِ الله تعالى في أمر الدعاء حيث يقول كما ورد في الصحيحين: (يستجاب لأحدكم ما لم يعجل يقول دعوت ربي فلم يستجب لي) وفي روايةٍ لمسلم: (قد دعوت, وقد دعوت, فلم أرَ يستجيب لي فيستحسرُ عند ذلك ويدع الدعاء) لذا فَتَرْكُ الدعاء إعراضٌ عن الله تعالى, وعدمُ التوقف عن الدعاء إقبالٌ عليه في عبادة يُؤْجَرُ الداعي عليها, ومِن ثَمَّ فهو علامةٌ على تحقيق الإجابة كما يقول سيدي ابن عطاء في الحكم: متى أطلق لسانَك بالطلب فاعلم أنه يُريدُ أن يعطيك. نعم؛ ولكن كما يقول: في الوقت الذي يريد لافي الوقت الذي تريد, وكيفما يشاء لا كيفما تشاء. أجل؛ لأنه أدرى بما يصلحك, وينفعك, ويرفعك.
يقول عليه الصلاة والسلام: (ما على الأرض مُسْلِمٌ يدعو الله تعالى بدعوةٍ إلا آتاه الله إياها, أو صَرفَ عنه من السوء مثلَها ما لم يَدْعُ بإثم أو قطيعة) فقال رجل: إذاً نكثر, قال: (الله لأكثر) أي؛ الله أكثر إجابةً من دعائكم.
هذا؛ ولعلكِ تلاحظين عدم الاستثناء مع وجود إشارة العموم بتنكير (دعوة) ليتحقق الوعد للكلِّ بإذن الله تعالى, أي؛ لم يقل صلى الله عليه وسلم: ما من مسلم يدعو الله تعالى بدعوة _أي له أو لغيره إلا الصالحين_ بل جاء بأسلوب العموم ليشار إلى حقيقة الاستجابة في نظام الحكمة الإلهية الجليلة.
فثقي بربكِ المعطي الكريم الحكيم, واثبُتي على ما أنت عليه من الدعاء تكوني أسعدَ الناس في دنيا التكاليف, وأقربَهم إلى الله تعالى في جنة التعريف.
بارك الله تعالى بعمرك وعملك, وجعلك من دعاته الصادقين, تحت نظر الصالحين من أمة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم آمين, ولا تَنْسَيْ أنْ تَخُصِّيني بدعوة صالحة جزاك الله خيراً, وأسعدك بما تحبين.