مميز
EN عربي

الفتوى رقم #3643

التاريخ: 05/07/2023
المفتي: الشيخ محمد الفحام

كيف يكون التذلل لله تعالى

التصنيف: الرقائق والأذكار والسلوك

السؤال

السلام عليكم و رحمة الله و بركاته . جزاكم الله خيراً و أعانكم الله تعالى ,و وفقكم لكل خير. كيف يكون التذلل و الافتقار الحقيقي لله تعالى (عملاً و تطبيقاً على وجه الحقيقة , و ليس على سبيل التصنع)؟ 

الجواب

وعليكم السلام ورحمة الله تعالى وبركاته وبعد أخي الكريم، فإنَّ ما تسألُ عنه الأصلُ فيه هو حالُ كلِّ عبدٍ تحقَّقَ بأنَّه مملوكٌ لا مالك، مُسْتَأْمَنٌ لا مُتَصَرِّفٌ، ومُقَيَّدٌ لا مُطْلَقٌ مَسْؤُولٌ عمَّا استُؤْمِنَ عليه مِنْ أماناتِ التكليفِ الْمَبْدوءَةِ بنفسِهِ الْمُنْتَهِيَةِ بكلِّ ما تحت يَدِهِ مِنْ مالٍ ومَتاعٍ وأهلٍ وأَتْباع، وأنَّ المالِكَ الحَقيقيَّ إنَّما هو الخالِقُ الْمُقَدِّرُ الفعَّالُ لما يريد، أَمَرَ ورَغَّبَ، ونهى وحَذَّرَ وَوَجَّهَ وبَشَّرَ، وقد جعلَ مَظْهَرَ الالتزامِ بذلِكَ كُلِّهِ خيرَ خَلْقِهِ خَلْقاً وخُلُقاً لِيؤْتَسَى به مِنْ أَجْلِ الوصولِ إلى دائرةِ الأَمانِ في الدنيا والفوزِ يومَ الحساب والسؤالِ كما يُسْتَجْلى ذلكَ بِيُسْرٍ في بيانه الْمُحْكَمِ: (لَّقَد كَانَ لَكُم فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسوَةٌ حَسَنَةً لِّمَن كَانَ يَرجُواْ ٱللَّهَ وَٱليَومَ ٱلأخِرَ وَذَكَرَ ٱللَّهَ كَثِيراً) تأَمَّلْ معيَ الضوابِطَ الثلاثةَ في البيانِ الإلهي؛

١- لمن كان يرجو الله تعالى ومعلومٌ أنَّ الرّاجي رحمةَ اللهِ تعالى هو مَنْ يخافُهُ، ثم طَمِعَ بِعَفْوِهِ.

٢-  واليوم الآخر أي: الحساب والسؤال عما كُلِّف به في دار التكليف

٣- وذكر الله كثيراً أي: عَلِمَ أنَّ التوفيقَ لِلوصولِ إلى ما سَبَقَ ذِكْرُهُ مَرْهونٌ باستمدادِ العَونَ مِن الآمِرِ سبحانه مَنْ جَعَلَ ذِكْرَهُ الكثيرَ مَصدَرَ عنايتِه بالذاكِر، ومُنْطَلَقَ تزكيَةِ قلبِهِ وطهارتِهِ مِنْ باطِنِ الإثمِ فَضْلاً عن ظاهِرِه ما يُخْتَصَرُ باصطلاحٍ صريحٍ معروفٍ عند أَهلِ اللهِ رضي اللهُ تعالى عنهم {الشرك الخفيوعليه؛ فَمَنْ عَرَفَ الْمُؤْتَسَى به صلى الله عليه وسلم حَقَّ المعرفة وجعلَ هواهُ تَبعَاً لما جاءَ به وتَلَقَّى الإسلامَ من أقوالِهِ وأفعالِه وأحواله، ووقَفَ في محرابِ عبوديتِهِ التي كان يُجَلِّيها لِكُلِّ ناظرٍ وسائلٍ ومُسْتَفْسِرٍ مِنَ الصَّحْبِ الكرام الذين عايَنُوا حالَهُ كلَّهُ عليه الصلاة والسلام ففي صلاتِهِ: «أفلا أكون عبداً شكورا» أي: أشهدُ ربي قبلَ أيِّ شيءٍ، وفي بلائه؛ «إنْ لم يَكُنْ بِكَ غَضَبٌ عليَّ، فلا أبالي . . . لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك» وفي حال الاحتياج للمأكول؛ «أَجوعُ يوماً، فَأَصْبِر، وأَشْبَعُ يوماً فَأَشْكُرُ»، وفي عَرَضِ الدنيا بما فيها؛ «اللهم عبداً نبياً» وفي محرابِ الدعاءِ والرَّجاءِ والافتقارِ؛ «اللهمَّ اقْسِمْ لنا مِنْ خَشْيَتِكَ ما تَحُولُ به بَيْنَنا وبين معصيتِك، ومِنْ طاعَتِكَ ما تُبَلِّغُنا به جَنَّتَكَ ومِنَ اليَقِين ما تُهَوِّنُ به عَلَيْنا مَصائِبَ الدنيا» وفي محراب التَّجُّردِ مِنْ رؤيةِ النَّفْسِ واعتدادِها؛ «اللهم إني عبدُكَ وابنُ عبدِكَ وابنُ أَمَتِكَ ناصِيَتِي بِيَدِكَ ماضٍ فيَّ حُكْمُكَ عَدْلٌ فيَّ قَضَاؤُكَ ...»

هذا؛ والكلامُ عن منهجيَّةِ الحبيبِ الأعظمِ صلى الله عليه وسلم الحياتية لا ينتهي، فَمَا عَرَضْناهُ لَمْحَةٌ مُهَيِّجَةٌ لكل مؤمنٍ تَمتَّعَ قلبُهُ بالحُبِّ النبَوِيِّ، ثم عَلِمَ أنَّ الْمآلَ هو ما عليه الْمُعَوَّلُ ذلك أنَّ هوى النَّفْسِ مِن رياءٍ وعُجْبٍ، أو استكبار إنما هو شهوة ساعة، مَثَلُ صاحبِها مَثَلُ النَّارِ التي تُؤَّجج، فتنير بوهجها ما حولَها ليصلى بها، ثم لا تلبث أنْ يَعقُبَها خمودٌ وظُلْمَةٌ، ثم حَسرة على ما فات بالاحتراق. وما مِنْ عاقِلٍ إلا وهو مُدْرِكٌ هذا الواقِعَ مُقدِّمَتَهُ ونَتيجَتَهُ، ولا والله ما تَجَرَّأَ مَنْ تَجَرَّأَ إلا بِعِلَّةِ الغَفْلَةِ عن جَوهَرِ الحِكْمَةِ الإلهيَّة مِنَ التكليفِ مع التوقيتِ العُمْرِيِّ الحاكِمِ على الْمُكَلَّفِ والحاسِمِ لِأَمْرِهِ فَمَنْ عَلِمَ حَتْمِيَّةَ المآل، وحقيقةَ الموت وما منه مِنْ أحوالٍ مُفْضِيَةٍ يقيناً إلى وِقْفَةِ السُّؤالِ بين يدي ذي الجلال، فإما فَوْزٌ، وإما خُسران، حَرَّرَ نيَّتَهُ، وجَرَّدَ مِنْ باطِنِ الإثمِ نَفْسَهُ، ورجا السَّتْرَ والعَفْوَ مِنْ ربِّه، بتلك المعرفة التي تُعِينُه على بلوغِ التوحيدِ الخالِصِ الزاكِي الخالي مِنَ الشِّرْكِ الظاهِرِ والباطِنِ والصَّافي مِنْ رؤيةِ العملِ، أو الاعتدادِ به، نعم! فعندها يغدو حالُه مع اللهِ تعالى بين الخوف والرجاء حالَ الخائفِ مِنَ الطَّرْدِ والعُقُوبَةِ الراجِي دخولَهُ في وسيعِ رحمتِهِ.

فغفلتنا عما خُلِقْنا مِنْ أَجْلِهِ بريدُ آثامِنا كُلِّها عافانا الله تعالى بما هو أَهْلُهُ.

بقي لَفْتُ النَّظَرِ إلى معرفةِ حقيقةِ أنَّنا في حالِ من الافتقار السليم بما لا شائبة فيه؛

والجواب في شقين؛ الأول؛ معرفةُ قَدْرِ نفسِكَ الحقيقي في تقصيرِها وضعفِها ومَيْلِها إلى الهوى

الثاني؛ إدراك العجز عن معرفةُ قَدْرِ ربِّكَ لاسيِّما عبر التدبُّرِ لبيانِهِ القائل: (وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدرِهِۦ وَٱلأَرضُ جَمِيعاً قَبضَتُهُۥ يَومَ ٱلقِيَٰمَةِ وَٱلسَّمَٰوَٰتُ مَطوِيَّٰتُ بِيَمِينِهِۦۚ سُبحَٰنَهُۥ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يُشرِكُونَ)، فَمَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ عَرَفَ ربَّه، ومَنْ عَرَفَ ربَّه غَلَبَ هواهُ وَوَقَفَ في محرابِ مولاه بالمجاهدةِ والمراقَبَةِ والْمُحاسَبَةِ، وبذا تَنْعَدِمُ عندَهُ رؤيةُ التواضُعِ أو التذلُّلِ الْمُتَكَلَّفِ له في النَّفس مِصداقاً لقولِهِ تعالى: (وَأَمَّا مَن خَافَ مَقَامَ رَبِّهِۦ وَنَهَى ٱلنَّفسَ عَنِ ٱلهَوَىٰ)  

كان سيدنا العارف الكبير ملا رمضان عليه الرحمة والرضوان إذا سئل عن الرياء أو العجب وما شاكل ذلك يستغرب أيما استغراب متسائلاً وهل هنالك ما يسمى بالرياء أو العجب ؟؟؟ أي: والعبد عبده وملكه ومأمور بأمره. قد أحياه، ثم أماته، ِم جعل مرجعه إليه ؟؟؟

أقول: والله إنَّه لَمُنْتَهَى الغَباءِ أنْ يَدَّعِيَ الإنسانُ ما ليس له، وما ليس فيه.

فاللهم! حَقِّقْنا بالافتقارِ الدائمِ إليكَ يا غفَّار، وخَلِّقْنا بأخلاقِ السيِّدِ المختار صلى الله عليه وسلم، ولا تَكِلْنا إلى أَنْفُسِنا طَرْفَةَ عَيْنٍ ولا أَدْنَى مِنْ ذلك يا أرحمَ الراحمين.

مع الرجاء بصالح الدعاء.