مميز
EN عربي

الفتوى رقم #35545

التاريخ: 28/09/2021
المفتي: الشيخ محمد الفحام

كيف السبيل إلى الخروج من سجن النفس

التصنيف: الرقائق والأذكار والسلوك

السؤال

 السلام عليكم ورحمة الله وبركاته السؤل الى سيدي الشيخ محمد الفحام. كيف السبيل الى الخروج من سجن النفس وقيودها؟ شاب من المغرب،نسألكم الدعاء سيدي

الجواب

وعليكم السلام ورحمة الله تعالى وبركاته وبعد أخي الكريم! فإنَّ الخروجَ مِنْ قيودِ النَّفْسِ لا يَتِمُّ إلا بالوقوفِ على خفايا أَهْوائِها ولا يُعْرَفُ ذلك إلا بِحُبِّها الدَّعَةَ والخُمولِ حيالَ ما كُلِّفَتْ به من الواجبات، ولا يَتَأَتَّى ذلك إلا بمعرفة أحكامِ الشريعةِ لا سيَّما الفروض العَيْنِيَّةُ منها، ذلك أنَّ الانتظامَ فيما كَلّفَ اللهُ تعالى عبدَهُ به يُوقِفُها على مَنْهَجِ الاستقامَةِ ويُبْعِدُها عن الْمَيْلِ إلى سواها ودونَكَ مثالاً ممَّا صَوَّرَ تلك الْمُسَلَّماتِ قال تعالى: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)

فقوله تعالى : (بالعدل) أي بالتَّسْوِيَةِ في الحقوقِ فيما بينَكمْ، وتَرْكِ الظُّلْمِ، وإيصالِ الحقِّ إلى أهلِه الذي لا يَتَحَقَّقُ إلا بالتَّوَسُّطِ في الأعمالِ الْمُتَرْجَمِ بالبُعْدِ عن الإِفْراطِ والتَّفْريط كإيصالِ الحقوقِ مِنْ غَيْرِ جَوْرٍ ولا تَعَسُّفٍ في استعمالِ الحَقِّ، وفي ذلك ما فيه مِنْ مُخالَفَةِ النَّفْسِ وأَطْرِها على الحقِّ بِكَسْرِ شهوتها ومخالفتِها هواها.

هذا؛ والحقُّ حقان؛ حقُّ اللهِ، وحَقُّ العبادِ، فالأَولُ؛ بِتَمامِه وكمالِهِ وبِشُهودِ الْمَعْبُودِ فيه فهو بريد للثاني كالصلاةِ إذا نَهَتْ عن الفحْشاءِ والمنكر. والقاسَمُ الْمُشْتَرَكُ بينهما أنهما عبادةٌ لله تعالى وقربة إليه، فإنْ ظَهَرَ خَلَلٌ في واحدٍ منهما كان دليلا على فساد الآخر. وبذا يُرَدُّ على صاحِبِهِ بعدمِ القبول والحجة عليه.    

وقوله تعالى: (والإحسان) على إطلاقِهِ المترجَمِ بأنْ كَتَبَهُ الله تعالى على كل شيء، لا سيَّما للمُسيء عملاً بقوله تعالى: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) وذلك بأنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَك، وتَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَكَ وتُحْسِنَ إلى مَنْ أساءَ إليك، وفي ذلك ما فيه مِنْ مُخالَفَةِ النَّفْسِ وخُروجِها عن شهوةِ إِنْفاذِها غَيْظَها وذلك _أي: إنفاذ الغيظ_ مِنَ القُيودِ الظُّلمانِيَّةِ المانِعَةِ عن شهودِ التَّجلياتِ العرفانية ذلك أنَّ التَّخَلُّقَ بِخُلُقِ العَفْوِ تَخَلُّق بمعنى اسمِ اللهِ تعالى (العَفُوّ) وهو بابٌ مِنْ أبوابِ الحُبِّ الإلهي كما يُشيرُ بيانُ اللهِ تعالى: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) وقوله تعالى: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)

هذا؛ وقد فُسِّرَ الإحسانُ بالإخلاصِ المأْخُوذِ مِنْ قولِه صلى الله عليه وسلم في الصحيح: (الإحسانُ أنْ تَعْبُدَ اللهَ كأَنَّكَ تراه، فَإِنْ لم تَكُنْ تَراهُ، فَإِنَّهُ يراك) ومعلوم أنَّ عبادةَ اللهِ تعالى بالمراقَبَةِ عبرَ مفهومِ قوله صلى الله عليه وسلم: (أن تعبد الله كأنك تراه) نوعٌ جليلٌ مِنْ أنواع المجاهدةِ، وفي ذلك ما فيه مِنْ مُخالَفَةِ النَّفْسِ وفَكِّ إسارِها مِنْ هواها. وهي _أي: المراقبة_ بريدُ المشاهدة وذلك هو مِعراجُ التَّحْليقِ في سماءِ الفَهمِ عن اللهِ تعالى في كُلِّ الأوامرِ والنواهي، ومعراج مقام الشهود مقام الحفظ الإلهي الذي به يَغْدُو عابِداً مولاه بمقامِ العبوديةِ الخالِصَةِ في نظامِ (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) وعندَها يَجْعَلُ اللهُ تعالى له مِنْ قَلْبِهِ السَّليمِ واعِظاً يأْمُرُهُ ويَنْهاهُ، وهو مِنْ مَقاماتِ الخيرية الذي جاء في قولِهِ صلى الله عليه وسلم والذي أخرجَهُ الدَّيْلَمِيُّ بسند جيد: (إذا أرادَ اللهُ بعبدٍ خيراً جَعَلَ له واعِظاً مِنْ نَفْسِهِ يأْمُرُهُ ويَنْهاه) فإذا بلغ العبدُ تلك الرتبة أُتْحِفَ بكمالِ الإيمان في نظام قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمنُ أحدُكم _أي: لا يتم إيمانه_ حتى يحبَّ لأَخيه ما يُحِبُّ لِنَفْسِه) وهو حُبُّ الخيرِ لِلْغَيْر أنى كان ذلك الغير وبغض الشر له، بل وحمايته منه.

وقوله تعالى: (وإيتاءِ ذي القُرْبَى) أي: بإعطاءِ المالِ لِلْمُحتاجِينَ منهم، وتَعَهُّدِ أحوالِهِمْ بالزيارات والكلمات الطيبة، ودوامِ الإحسانِ إليهم وإنْ أَساؤُوا.

وقوله تعالى: (ويَنْهَى عن الفَحْشاءِ والْمُنْكَرِ) أي: عن كلِّ ما قَبَّحَهُ الشَّرْعُ بدءاً بالزِّنى وانْتِهاءً بالفاحِشِ مِنَ القَول وفي الحديث: (إنَّ يُبْغِضُ الفاحِشَ والْمُتَفَحِّشَ) أي: إنَّ اللهَ تعالى يُحِبُّ طيِّبَ القولِ والفعلِ على مَفْهومِ الْمُخالَفَةِ كما يُدْرِكُ ذلك كلُّ عاقِلٍ.

وقوله تعالى: (والبَغْيِ) أي: وينهى عن الظُّلْمِ والاعتداءِ على حقوقِ الغير، والرِّضَى بالعواقِبِ الذَّميمة.  

وقوله تعالى: (يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرونَ) أي: فإذا كان الواعِظَ اللهُ تعالى والموعوظَ ذلك العبدُ الذي سَمِعَ القولَ فاتَّبَعَ أَحْسَنَهُ كانت تربِيَتُهُ وتَزْكِيَتُه ربانيةً بامتياز.

وهنا السؤالُ الذي يَفْرِضُ نَفْسَهُ لدى كلِّ مُريدٍ وسالكٍ تُرى هذا هو الجوابُ على مثلِ ذلك السُّؤالِ إذن؛ فأين مَنْهَجُ الربانِيِّينَ الْمُسَمَّى بمنهجِ التَّزْكِيَةِ؟؟ والجواب؛ وهل خرجَ المحققون من ساداتنا الصوفية عن ثوابتِ البيانِ الإلهي قطُّ؟؟ وهل نالوا ما نالوه من المعرفة والذوق إلا بالعمل بالشريعة التي هي بريد الحقيقة؟؟ إنَّهم قالوا: ومَنْ زادَ عليك في الأَخلاقِ زادَ عليكَ في التَّصوُّفِ والتصوفُ مَظْهَرُهُ أعمالُ الشريعةِ بأحكامها، وجوهرُه أسرارُها، وذلك هو مَقامُ التقوى الذي هو بريدُ الورع الذي هو بريدُ الزهدِ الذي هو بريد التوكل الذي هو بريد اليقين، فشرعُ اللهِ تعالى مُنْطَلَقُ الخَلاصِ من قيودِ النَّفْسِ وسجنها لما فيه مِنْ إِلزامِها بما يَمْنَعُها مِنَ الكسَلِ والخُمول والدَّعَةِ ويُبْعِدُها عن الأَنا وذلك بأداءِ الحقوقِ ومعرفةِ الواجبات.

أما وعاءُ الضمانِ للوصولِ إلى ما ذُكِرَ في طَرَفَيْنِ الأول؛ الالتزامُ بالأَورادِ المنيرة للقلب والْمُرَطِّبَةِ لِلِّسانِ والْمُعِينة على كَسْرِ الجُمودِ حيالَ أَطْرِها على مخالَفَتِها .الثاني؛ الائتساءُ بخيرِ مَنْ وطِئَ الغَبْراءَ واسْتَظَلَّ السَّماءَ سَيِدِ الأنبياء صلى الله عليه وسلم في رحاب التوجيه الإلهي إلى الطَّلَبِ وشَرْطِ صِحَّتِهِ وتحقيقِهِ: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) ودونَكَ هذا التعريفَ الجامعَ لِلتَّصَوُّفِ قالوا: هو صِدْقُ التَّوَجُّهِ إلى اللهِ، قال سيدي ابنُ عجيبة أي: بما يَرْضاهُ ومِنْ حيث يَرْضاهُ وعليه؛ فَلنُراقِبْ سلوكياتِنا في الأقوالِ والأفعالِ فإنْ وافَقَتِ الشرعَ، فذلِكَ دليلٌ على مُخالَفَةِ النَّفْسِ هواها لأَنَّ مِنْ جملَةِ التَّوجيهاتِ الإلهيَّةِ قوله تعالى: (وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ) وذلك مِنْ أَعْظَمِ ما يفك إسارَها مِنَ القُيودِ لطهارتها مِنَ العُجْبِ والحِقْدِ والضَّغينَةِ. والخلاصةُ في سلامةِ القلْبِ كما في بيانِ اللهِ تعالى: (يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ*إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) وقوله تعالى في سيدنا إبراهيم الخليل: (إِذْ جَاء رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)

ومِنْ طريفِ ما نُقِلَ عن الإمام الجنيد رضي الله تعالى عنه أنَّ أَحَدَهُمْ سأَلَهُ متى يَصيرُ داءُ النَّفْسِ دواءَها فقال رضي الله تعالى عنه إذا خالَفَتْ هواها. ولا مَنْهَجَ سديد لِمُخالَفَةِ النَّفْسِ كتطبيقِ شرْعِ الله تعالى في العبادات والمعاملات والأخلاق.

وذلك هو المظهرُ النَّبَوِيِّ الراشدِ أنَّ عباداتِهِ تُتَرْجِمُ العبوديةَ الحّقَّةَ ومعاملاتِهِ وتُثْبِتُ توازنَ المجتمع بإيصالِ الحقوقِ إلى أَهْلِها ومَكارمِ أخلاقِهِ الموصِلَةِ الخَلْقَ إلى الخالقِ بِتَحْبيبِهم إيَّاه إليهم.

ختاما؛ أسألُ اللهَ تعالى أنْ يَفُكَّ إِسارَنا مِنْ قيودِ النَّفْسِ في الأقوال والأفعال والأحوال آمين يارب العالمين. ولا تنس أنْ تَخُصَّني بصالحِ دعواتِكَ.