مميز
EN عربي

الفتوى رقم #124758

التاريخ: 09/09/2020
المفتي: الشيخ محمد الفحام

سبب البعد عن الله .. والفرق بين خاطر الخير وخاطر السوء

التصنيف: علم السلوك والتزكية

السؤال

السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته كيف للمسلم ان بعرف سبب بعده عن الله كي يستطيع تدارك تقصيره ؟ وكيف يستطيع ان يفرق بين (لا يكلف الله نفسا الا وسعها) ومخالفة النفس ؟ وكيف يستطيع التفريق بين خاطر السوء وخواطر الخير؟ مع الرجاء بالدعاء بان يصلحني الله تعالى جزاكم الله خيرا 

الجواب

وعليكم السلام ورحمة الله تعالى وبركاته الحمد لله والصلاة والسلام على سيِّدِ الخلقِ رسولِ اللهِ وآله وصحبِهِ ومِنْ والاه، وبعد؛ فإنَّ سبَبَ البُعْدِ عن الله تعالى هو الانْشغالُ قَلْباً بِسِواهُ وله اصطلاحٌ عند أَهلِ الله تعالى وهو قولهم: [الغَيْبَةُ عن اللهِ بِسِواه] والمعنى: أنَّه  يعيش في دائرةِ الشَّواغِلِ دون مُراقَبَةٍ للخالقِ الْمُقَدِّرِ الْمُعْطِي المانِعِ سبحانَه الذي له الخَلْقُ والأَمْرُ الحكيمُ الذي خَلَقَنا مِنْ أَجْلِهِ وخَلَقَ الدنيا مِنْ أَجْلِنا، وخَلَقَ كلَّ شيءٍ بِقَدَرٍ، فإنَّ مَنْ شُغِلَ بما لم يُخْلَقْ له ضَلَّ الطريق، وضاع في متاهات الوساوس، وحُرِمَ القصدَ الصحيح، ومِنْ ثمَّ الوصولَ إلى المأمول، ثم إنَّ الأصلَ في ذلك بيانُ الله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ* مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ* إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِين) فانْظُرْ إلى نفسِكِ مُتَسائلاً تُرى هل الغَفْلَةُ مُسْتَحْكِمَةٌ مِنْ قلبِكَ بشواغِلِ الدنيا، أمْ أنَّ الدنيا عندَك مُجَرَّدُ وسيلةٍ لا غاية؟ ثم انْظُرْ إلى قلبِكَ وتأمِّل ترى هل يَسْكُنُهُ أو يُساكِنُه سوى حُبِّ الله تعالى ورسولِهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَإِنْ كان في عافيةٍ فَاهْنَأْ عَيْشَاً وبَالاً، وإنْ كانَ على خلافِ ذلك فانْفُضْ مِنْ قلبِكَ غبارَ تلكَ الشواغِلِ مُتَوَجِّهاً إلى مولاكَ سبحانه أن يعينك على تزكيته، مُعْتَرِفاً بِتَقَصيرِكَ سائلاً إياهُ عفوَهُ ورضاه بِمَداخِلِ تَقْواهُ مِنَ الأَوامِرِ والنَّواهي، فلعلَّ نَفْحَةً تَجْذِبُك إلى مِحْرابِهِ الآنِس تُحَقِّقُ المأْمولَ إن شاء الله تعالى.

أما سؤالُكَ عن بيانِ الله تعالى: (لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا) والتوفيق بينها وبين مخالفة النفسِ فإنَّه لا تباين بينهما فيما يتعلق بالقدرة والاستطاعة، فإنَّ الأولَ يُشيرُ إلى مُطالبَةِ العبدِ وُسْعَهُ وطاقاتِه وباسْتِهْلاكِ ذلك الوُسْعِ لِتَحْقِيقِ مَقامِ التقوى، وذلك هو حَقُّ التقوى المشار إليه كما عند بعضِ المفَسِّرين لبيان الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ) وبيان الله تعالى: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا) أَمَّا الكلامُ عن النفس، فَقَضِيَّةٌ تَتَعَلَّقِ بِمَيْلِ النَّفْسِ إلى ما تهوى مرتهنا بما ابْتلاكَ اللهُ تعالى به مِنْ تلك التكاليف أنْ تكون على ميزانِها بعيداً عما تهوى النفسُ مِنَ الْمُخالَفَاتِ التي تَرْجمَها بيانُ اللهِ تعالى في الكثيرِ مِنَ الآياتِ، والتي منها قولُه تعالى في النازعات: (فَأَمَّا مَن طَغَى* وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا* فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى* وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى* فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) والابتلاء في أنَّ المولى الحكيمَ جَعَلَ القدرةَ على الكَسْبِ بِيَدِكَ عَبْرَ الاختيار، مع دلالتك كمُكلَّفٍ على السَّبيلين كما قال سبحانه: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) وكذلك قال سبحانه: (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ)، فقُدرتُك على فعلِ أيٍّ مِنَ السَّبيلَيْنِ نَوْعٌ مِنْ أَنْواعِ الابْتلاء على السَّلْبِ والإيجاب؛ أما السَّلْبُ، فهو أنْ تَميلَ نَفْسُكَ إلى ما حَذَّرَكَ اللهُ تعالى منه مع قدرتك على تَرْكِهِ، وأما الإيجاب، فهو أنْ تُجاهِدَها في أداءِ ما أُمِرْتَ به واجْتِنابِ ما نُهِيتَ عنه، فإنْ بَلَغْتَ الْمُرادَ ارتَقَيْتَ مِنْ مقام مجاهَدَةِ النفسِ إلى مُشاهدةِ نور الحقِّ مُتَحَقِّقاً بِمقامِ الإِحْسانِ الذي عَرَّفَهُ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بقولِه كما في الصحيح: (أن تعبدَ اللهَ كأَنَّكَ تراه، فإنْ لم تَكُنْ تَراهُ فإنَّهُ يَراك) فَتْشَهُد الأَشياءَ كُلَّها بِمُقَدِّرِها سبحانه، وهنا تَحْظَى بثمراتٍ ثلاث، الأولى؛ عَوْنُ الْمَعْبُودِ عَبْدَهُ على العبادةِ مُتَحَقِّقاً بقولِه تعالى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) أي: يَنْبَغِي أنْ يكونَ العبدُ الْمُكَلَّف بين العِبادة في (إِيَّاكَ نَعْبُدُ)، والعبودية في (إِيَّاكَ نَسْتَعِين) الثانية؛ ذَوْقُ طَعْمِ الطاعةِ بِكُلِّ أَنْواعِها الثالثة؛ كمالُ الإِيمانِ بذلكَ الذَّوْقِ كما بَيَّنَهُ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في الصحيح: (ذاقَ طَعْمَ الإِيمانِ مَنْ رَضِيَ باللهِ تعالى رَبّاً وبالإسلامِ ديناً وبمحمدٍ نَبِيّاً)

أمَّا سؤالُكَ عن مَعْرِفَةِ الفَرْقِ بين خاطِرِ السُّوءِ وخاطِرِ الخيرِ، فلا يُمْكِنُ ضَبْطُه إلا بِميزانِ الشرعِ الذي فُرِضَ علينا مَعْرِفَةُ أحكامِهِ فَرْضَ عَيْنٍ، فما وُزِنَ بميزانِ الشَّرْعِ، فهو خاطِرٌ رَحْمَانيٌّ يَنْبَغِي اسْتِثْمارُه، وما لم يُوَزْن، فَيَنْبَغِي الإِعْراضُ عنه وعن الاستجابة له، فإنِ انْزَلَقَتِ القَدَمُ في مَهاويه لَزِمَ الإِنابةُ السريعة إلى اللهِ تعالى، فهو الْمَدْخَلُ الفَريدُ لإِغْلاقِ بابِ ظُلُماتِ الأَوْهام والوساوس التي تَشْغَلُ العبدَ بما لا طائلَ منه وتُضيعُ العمرَ، وتُحْبِطُ العملَ.

ثَبَّتَكَ اللهُ تعالى بِقَوْلِهِ الثابِتِ، ونوَّرَ قَلْبَكَ بنورِ الحُبِّ الخالِصِ ويسَّرَ عليكَ سُبُلَ الخَيراتِ بمنهجِ سيِّد الساداتِ عليه أفضلُ الصلواتِ وأَتَمُّ التسليمات. لا تَنْسَنِي من دعواتك الصالحات.